قد يكون ما أقدمت عليه فرنسا مؤخرا من اعتراف رسمي بمجوعة كبيرة من الخونة الذين قدموا يد العون والمساعدة للجيش الفرنسي في حربه القذرة ضد الشعب الجزائري،وضد القضية الجزائرية التاريخية العادلة،هو عين الصواب من الناحية المنطقية الفرنسية،وقد لا يعني أحد من خارج فرنسا،فهذه مسألة فرنسية داخلية بحتة،تخص الفرنسيين لوحدهم.كما تخص المستفيدين من هذا الاعتراف وهذا التبجيل البطولي العظيم.ولكن هذا الاعتراف بكل حيثياته لا يزال عالقا به دم مسفوح، وجراح غائرة لم تندمل بعد، وأمة مدمرة، وأرض مسلوبة، وعرض منتهك.
وحتى لو سلمنا أن هذا الاعتراف من الجانب الفرنسي فيما يتعلق بأفراد انضموا إليها، ولظروف أقل ما يقال عنها أنها الخيانة وأنهاالردة ، وموالاة الكفار، والحكم الشرعي في هذه المسألة معروف وهو القتل، جاء ليعطي هذه الفئة التي ساعدت الكولونيالية الفرنسية،اعتبارا تاريخيا، ويمنحهم ثقة كبيرة، بغرض الحاجة إليهم فيما بعد، وتطبيق سياسة فرنسية معينة غير معلومة، لا يمكن أن تكون بمنأى عن كل ما هو مرتبط بالتطلعات السياسية الجديدة للرئيس عبد العزيز بوتفليقة،التي تتمحور كلية حول المصالحة الوطنية والعفو الشامل.
حركة مجتمع السلم كشفت أمرا خطيرا ،على خلفية الاعتراف الفرنسي الرسمي بجهود الحركى والخونة إبان ثورة التحرير، هذا الاكتشاف الذي حتم على الحركة كي تعلن طلاقها مع اللجنة الوطنية للعفو الشامل .وولو أن هذا الطلاق جاء متأخرا ويعتبره محللون سياسيون، بأنه طلاق يهدف إلى كسب مواقع سياسية داخل السلطة،ولأنها سوف تتفاوض من منطلق هذا الانسحاب حول مكاسب سلطوية. وخصوصا إذا ما علمنا أن السلطة الحالية منكبّة كلية على إنجاح هذا العرس السياسي الكبير، كما يهدف هذا الطلاق إلى توصيل رسالة للرأي العام على أن الحركة لا تزال عاطفيا مع قضايا الأمة، لتحوز على مزيد من العطف بعد أن انخفضت أسهمها في بورصة السياسة، وداخل المجمعات الشعبية .وقد كانت تقول على لسان زعيمها أبو جرة سلطاني أنها مع سياسة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة كيفما كانت، ومع سياسة العفو الشامل من غير أدنى مناقشة.
ما ذكرته حركة حمس (حركة مجتمع السلم) ليس غريبا،ولكن الغريب فيه أن يكون التصريح به في العلن ومن حركة لها مكانتها الحزبية لدى السلطة الفعلية، وتعتبر قطبا بارزا في التحالف الرئاسي الذي يعني أنها مطلعة على كل ما يقرره الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، ومؤمنة أشد الإيمان بمساره السياسي. لأن التوجهات السياسية منذ مدة بدأت تسفر عن وجهها الحقيقي، بعد تلك الزيارة التاريخية للرئيس جاك شيراك إلى الجزائر، بمرافقة أحد أكبر رؤوس الخونة والحركى، وكانت تلك الزيارة حسب كثير من المراقبين السياسيين لها معان عدة، كما أن لها أبعادًا تاريخية، وأول بعد يمكن أن يطرح في مخيلة أي شخص بسيط، هو المصالحة التاريخية مع فرنسا، ونسيان الماضي التدميري،الذي لا تزال تداعياته على الشعب الجزائري ماضية فيه إلى الآن. و عندما نقول المصالحة مع الكولون الفرنسي يجرنا ذلك بكل تأكيد إلى الاعتراف بأذنابها الخونة، الذين عاشوا في ظلها وحمايتها يذبحون الشعب الجزائري، سواء قبل خروج فرنسا بالحديد والنار، أو بعد أن نالت الجزائر السيادة، والاستقلال العسكري.
مشروع العفو الشامل يضم كل الحركى والأقدام السوداء –حسب حركة مجتمع السلم دائما- وقد لا يضم علي بن حاج الذي تطاله التهم على أنه دمر الجزائر، و حرض الناس على حمل السلاح. وإذا ما صدقت هذه المعلومات، فهذا يعني أننا أمام منعرج تاريخي خطير قد يفتح الأبواب على مصراعيها للدخول الرسمي الفرنسي ليس تحت راية الكولون، أو بحجة حادثة المروحة، ولكن تحت راية المصلحة التاريخية، والتواصل بين دولتين جمعتهم في يوم من الأيام أرض لا تزال إلى الآن مبتلة بدم الشهداء. الاعتراف الرسمي بالخونة والحركى، من قبل فرنسا إيذان بتوظيف هذه المجموعة لاحقا، وكي تنال في نفس الصدد الاعتراف من الجانب الجزائري، وقد تستعمل فرنسا العصا الاقتصادية، من أجل ابتزاز النظام الجزائري،كي يكون لهذه المجموعة اعتراف، ويصدر في حقها عفو شامل يعيد الحساب التاريخي إلى الصفر.وقد يتم ذلك باسم العولمة، والتفتح العالمي الجديد، وقد يكون محصورا في جانب الرؤية الحضارية التي تعاف الحزازات التاريخية القميئة.
من غير شك ستكون الساحة السياسية في الجزائر مستقبلا مفتوحة على كل الاحتمالات، بعد أن اتضحت الرؤية، وذاب الثلج عن المرج الفرنسي، وأظهرت التحليلات أن الاعتراف الأخير بمجموعة الحركة والخونة، لم يأت صدفة ولكن جاء في وقته، ومضبوط على عقارب ساعة بيغ بن الدقيقة. فالنظام الفرنسي يفهم جيدا ما معنى المصالحة التاريخية، التي هي في معناها العام والشامل تعني تبيض صحائفها المسودة، وتصحيح مسارها التقتيلي في الجزائر. وتأخذنا الدهشة الملحة أحيانا حينما نسمع لبعض الوجوه السياسية التي تستلطف ما تقوله فرنسا عن الثورة الجزائرية، وتفرح لما تتشدق به عن أن ما حدث من 1954 إلى 1962 كان حربا. أوكأن قبل هذه السنوات لم تكن حربا، وهذه كلها مغالطات مقصودة، الهدف منها هو تضليل الرأي الشعبي المقصود أولا وأخيرا بهذه الثورة، وبكل مضامينها التاريخية. ويذهب البعض إلى التفاخر بأن فرنسا قد اعترفت بثورة الجزائر، وهذه أكبر المغالطات، لا تبين فقط الجهل، والقابلية الاستعمارية بتعبير مالك ابن نبي ولكن تبين العقدة التي لا تزال لصيقة بوجدان هؤلاء. وقد يكون هذا كفيل بأن يتم القبول وبدون مناعة بكل ما يتعلق بفئة الحركى والخونة.
إن التاريخ فقط هوالذي لا يمكن أن ينسى،وعندنا على سبيل المثال شواهد كثيرة تبين بأن الأمم التي ظلمت، وحقّ عليها الجهاد، وحقّ عليها دفع الظلم يتوجب عليها أيضا أن لا تلقي بذاكرتها جانبا. ولسنا بأحسن من اليهود الذين لا يزالون على فرقعة محرقة الهولوكوست، التي نالوا بفضلها فلسطين، وبفضل ورقة لا قيمة لها سوى أنه مكتوب عليها وعد. ولسنا بأحسن من السويسريين الذين طالبوا بحقهم من فرنسا، وكان هذا الحق ليس مليون شهيد كما هو الشأن عندنا، أو ملايين الفرنكات الذهبية التي اغتصبت من دولة الداي حسين، بعد الغزو مباشرة سنة 1830م.بل كان دينا لا يتعدى 46 فرنك فرنسي كان السويسريون منحوه لجيش نابليون بونابارت سنة 1800م، على شكل أعمال يدوية، في قطع الأشجار الصنوبر ومؤن، وطناجر استعملها الجنود في أكلهم. ورغم مرور أكثر من قرن ونصف على هذا الدين البسيط والتافه عند من لا يفقهون الحقوق التاريخية، بيد أن أصحاب ضيعة "بورغ سان بيير" السويسرية وهي قرية صغيرة، ظلوا على ذلك الوعد الذي قدمه لهم القنصل العام في ذلك الوقت بأنه سوف يدفع كل المستحقات، بعد أن قيم كل شجرة صنوبر بستة فرنكات، وكل يوم عمل للسكان بثلاثة فرنكات. وطالبوا ولم ينسوا أبًا عن جد كل من الرئيس بومبيدو، وجيسكار ديستان، ولم ينالوا حقهم إلا بعد زيارة فرنسوا ميتران التاريخية سنة 1984 لسويسرا بعد أكثر من سبعين سنة من الجفاء السياسي بين فرنسا وسويسرا. فهل قال هؤلاء السكان بعد زيارة فرانسوا ميتران لسويسرا وبعد تحسن العلاقات بين البلدين بأنه يجب نسيان الماضي، والعفو عن الدين؟
.إن ما قامت به فرنسا مؤخرا ليس له تبرير على مستوى السياسة الداخلية الجزائرية، ولا يمكن البتة لسياسة العفو الشامل بأن تعطي لمن خانوا بلدهم نفس الحظوة ، بعد أن لطخوا إسمهم بالعار والشنار . لأن الاعتراف الرسمي الفرنسي بهذه الفئة الخائنة، لا يمكن أن يكون إلا رسالة استفزازية واضحة للذاكرة الجماعية في الجزائر.وابتزاز ضمني لسيادة الدولة الجزائرية،فهل نفقه هذه المؤامرة التاريخية؟