"أمريكا تخرج من الظل" لجيفري أرنسون واحد من أهم الدراسات التي تؤرخ لبواكير الدور السياسي الأمريكي في المنطقة العربية (1946 – 1956) والملفت في هذا الكتاب استخدامه المتكرر لتعبير "الابتزاز" لوصف العلاقات المصرية الأمريكية متهمًا النظام المصريَّ بابتزاز أمريكا منذ بدأت العلاقة بينهما بعد يوليو 1952، وخلال ما يزيد على نصف قرن كانت القضية الفلسطينية أهم أوراق الابتزاز. والقضية بالطبع ليس الهدف أن يشعر القارئ بالإشفاق على أمريكا المسكينة "المستهدفة بالابتزاز"!!! فهذا منطق ساذج لا يعرفه منطق السياسة الذي يحكمه منطق الأنياب والمخالب، بل فك شفرة الدور المصري في القضية الفلسطينية والنفاذ إلى ما وراء الخطاب السياسي الذي لا يعكس حقيقة هذا الموقف بل يشارك في إخفاء أهدافه الحقيقية.
فمثلًا بينما يتم تصوير جمال عبد الناصر في صورة من يرفض كل محاولات التسوية السلمية مكتفين بترديد: "ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة"، تأتي الحقائق صادمة. فعندما كانت تتولى إدارة قطاع غزة كان الوضع السياسي المصريُّ ينعكس على علاقة الإدارة المصرية بالفصائل السياسية المختلفة، وعندما ساءت العلاقات بين عبد الناصر والإخوان المسلمين (1954)، كان رجال الحاج أمين الحسيني ينظرون بريبة لعلاقة مصر بمشاريع توطين الفلسطينيين.
وحتى عام 1955 كانت هذه الريبة تفسر في إطار تعاطف إسلاميِّي فلسطين مع الإخوان في مصر. غير أن الشيوعيين الفلسطينيين استطاعوا أن يحصلوا عن طريقة موظفة في الوكالة الدولية لغوث اللاجئين على مشروع تم الاتفاق عليه بالفعل بين الحكومة المصرية والوكالة يقضي بتوطين الفلسطينيين في العريش. وقد امتد الإعداد للمشروع من توقيعه في يونيو 1953 إلى يونيو 1955. وطبع الشيوعيون خمسة آلاف نسخة منه ووزعوها على الجماهير فخرجت مظاهرات غاضبة شملت القطاع كله. وأحرق المتظاهرون مخازن الأمم المتحدة ووجهوا إهانات للجيش المصريِّ، وكان شعارهم الرئيس "لا توطين ولا إسكان يا عملاء الأمريكان" كما رفعت شعارًا تتهم عبد الناصر بالخيانة. وتصدى الجيش المصري للمتظاهرين بقسوة فقتل وجرح عديدين وأُعْلِنَتِ الأحكام العرفية، لكن المظاهرات استمرت عشرة أيام.
ثم شكلت لجنة ترأسها شيوعيٌّ وإخوانيٌّ (معين بسيسو وفتحي البلعاوي) قدمت للإدارة المصرية عدة مطالب في مقدمتها إيقاف مشروع التوطين وإطلاق الحريات ومحاكمة المسئول عن إطلاق الرصاص على المتظاهرين والتعهد بعدم ملاحقة من اشتركوا في المظاهرات، وأعلنت الإدارة المصرية قبول المطالب، ثم اعتقلت قادة المظاهرات!! ولم يُفرج عن المعتقلين إلا بعد انسحاب الجيش المصريِّ من غزة (يوليو 1957)!!!
وفي سبتمبر 2002 عندما تقرر إرسال مدربين أمنيين مصريين وأردنيين لتدريب قوات الأمن الفلسطينية أو بتعبير أدق السيطرة عليها وقع تفجير كبير في قلب تل أبيب ليجهض المخطط الذي كان جزءًا من ترتيبات اللجنة الرباعية. وكانت تصريحات قادة حماس والجهاد آنذاك واضحة في رفض الوجود المصريِّ الأردنيِّ.
غير أن غياب عرفات الذي يبدو أنه كان ضروريًّا لإطلاق يد أطراف عربية في مقدمتها مصر منح النظام المصري فرصة أكبر لأن يقدم لأمريكا "تنازلًا كبيرًا" يكافئ حجم الضغوط الأمريكية غير المسبوقة لإحداث تغيير ديموقراطي في مصر، وحسب تقرير لرويترز سبق القمة بقليل فإن هدف مبارك هو إظهار "أنه لا غنى عنه في آليات صنع السلام في الشرق الأوسط. فمن الناحية الدولية فإنه يواجه تدقيقًا غير معتاد للنظام السياسي المصري الاستبدادي الذي لم يكد يتغير منذ تولي مبارك الرئاسة قبل 24 عامًا" . . . "وتسامحت واشنطن على مدى ربع قرن مع الحكومات المصرية فيما يتعلق بقمعها وانتهاكات حقوق الإنسان التي ترتكبها مقابل معاهدة كامب ديفيد . . .وما تعتبره نفوذ مصر البناء لدى الفلسطينيين". . . . "وقالت صحيفة نيويورك تايمز في مقال افتتاحيِّ الأسبوع الماضي إن هذا الترتيب المتفق عليه أصبح موضع مراجعة. وقالت "إن الدور المفيد للرئيس المصري... يجب ألا يجعله بمنأى عن الانتقاد لدكتاتوريته".
وهذا الارتباط بين أزمة النظام المصري والدور الذي يلعبه للتنازل نيابة عن الفلسطينيين ودفعهم لـ "مباركة" هذا التنازل أكدته تصريحات مسؤولين فلسطينيين (السبت 5/ 2/ 2005) بأن مصر فاجأت الفلسطينيين بدعوتها للقمة وهو ما أدى لإرباك جهودهم التفاوضية. وحسب تصريحات للوكالة الفرنسية أدلى بها مسؤول مقرب من أبي مازن رفض الكشف عن هويته "داهمنا الترتيب المصري ونحن في خضم البحث والتفاوض مع إسرائيل. . . . كانت الأمور تسير على ما يرام وكنا في طريقنا لتحقيق مكاسب, ثم تغيرت لهجة الإسرائيليين بعد الإعلان عن القمة . . . وأخشى أن تكون مصر ومعها إسرائيل الرابحين الكبيرين من هذه القمة". فالإعلان عن القمة "عطل إستراتيجية تفاوض كانت الرئاسة الفلسطينية وضعتها".
وانطوى الترتيب المصري على مفاجأة أخرى مربكة للفلسطينيين تمثلت في وصول خالد مشعل ورمضان شلح للقاهرة وإعلان مصر حصولها على ضمانات منهما بقبولهما عقد هدنة مع إسرائيل وهو ما تم دون تنسيق مع السلطة الفلسطينية التي كانت قد أنهت للتو مفاوضات مضنية مع معهما لم تسفر سوى عن "تهدئة" وليس "هدنة". ويرى مسؤولون فلسطينيون أن مصر "أرادت التأكيد للإدارة الأميركية أنها تملك القدرة والمكانة الكافيتين في المنطقة لدفع الملف الإسرائيلي الفلسطيني إلى الأمام الأمر الذي يساعدها على تخفيف الضغوط الأميركية عليها بتطبيق إصلاحات سياسية".
فهل نحن أمام التنازل المصري الأخير؟
على الأرجح لا.