لقد أحسن الرئيس بشار الأسد عندما أعلن في خطابه الانسحاب من لبنان على مرحلتين وفي أسرع وقت ممكن. يكون بهذا قد سحب البساط من تحت أقدام ما يسمى بالمعارضة اللبنانيَّة التي تتناغم مطالبها مع مطالب الإدارة الأمريكيَّة ودوائر الغرب بصورة عامة. ولكن السؤال هل يكفي هذا لِتُوقِفَ الإدارة الأمريكيَّة الضغط المتواصل على سوريا والمنطقة؟ هل تكتفي تلك المعارضة بالانسحاب السوريِّ؟ هل ينفعها الاستقواء بالخارج على اللبنانيِّين أنفسهم الذين يؤيدون المقاومة وعدم تجريدها من السلاح؟ لقد جعل بوش الابن لبنان وسوريا شغله الشاغل ولا يكاد يمر يوم دون أن يدلي هو أو غيره من أركان الإدارة الأمريكيَّة بتصريح ناريٍّ بغرض إدامة الضغط على سوريا عملًا بنصائح المعارضة اللبنانيَّة وبنصائح الإسرائيليِّين. لقد كان رد الفعل الأول والمباشر على ما أعلنه الرئيس السوريُّ بأن ذلك ليس كافيًا والإصرار على الانسحاب الكامل والفوريِّ وذلك في إطار مواصلة الضغط على سوريا وصبِّ الزيت على النار المشتعلة في لبنان عبر التصريحات والقوانين ومشاريع القوانين والتوصيات وآخر هذه السلسلة من المشاريع هو ما تقدمت به عضو الكونغرس الأمريكيِّ مشروع قانون يطالب الرئيس الأمريكيَّ أن يستصدر قرارًا من مجلس الأمن بقرار يعتبر لبنان دولة "أسيرة" يجب تحريرها من سوريا. ويترافق هذا التصعيد الأمريكيِّ مع تصعيد يقابله في لبنان من المعارضة اللبنانيَّة بمطالبها التصعيديَّة وخاصة بعد استقالة الحكومة والغرض من ذلك لا يخفى على أيِّ ذي بصر وبصيرة ألا وهو إدخال لبنان في الفوضى والفراغ الأمنيِّ كي يتاح للقوى الأجنبيَّة بالتدخل المباشر عملًا بنصيحة القيادة الإسرائيليَّة كما ورد في صحيفة هاآرتس بأن شخصيات لبنانيَّة اتصلت بقيادات إسرائيليَّة طلبوا منهم أن تواصل إسرائيل تشجيع الإدارة الأمريكيَّة على استمرار الضغوط على سورية من أجل سحب قواتها من لبنان وكما أن قيادات إسرائيليَّة اتصلت ببعض المعارضة اللبنانيَّة تطلب منها التحرك على الأرض وهذا ما حصل بعد اغتيال الحريري مباشرة.
إن ما يشهده لبنان اليوم ما هو إلا حلقة من حلقات المخطط الأمريكيِّ الذي تم التخطيط له بعناية وإحكام من قِبَلِ زمرة المحافظين الجدد في عام 1996. لقد تقدموا بوثيقة إلى نتنياهو رئيس الوزراء الصهيونيِّ آنذاك رسمت الاستراتيجية الأمريكيَّة الصهيونيَّة لتحقيق ما اصطلحوا عل تسميته "الشرق الأوسط الكبير" حيث يتم بَلْقَنَةُ دول المنطقة لصالح المشروع الصهيونيِّ وتدخل المنطقة كلها في الطاعة
الأمريكيِّة. إننا لا نتحدث هنا بمنطق المؤامرة ولكن أصبح كل شيء واضحًا اليوم حيث أفراد العصابة الحاكمة في واشنطن لا يخفون ذلك ويصرحون به جهارًا نهارًا بمناسبة وبدون مناسبة ويلبسونه ثوب الحرب على الإرهاب وإشاعة الديموقراطيَّة.
يقول موريل ميرا-ويسباخ المحلل السياسيُّ المعروف في Executive Intelligence Review: لقد تم التخطيط لاغتيال الحريري بعناية فائقة بحيث يكون الشرارة التي تتداعى من ورائها سلسلة من ردود الأفعال الانفعاليَّة والعاطفيَّة التي تصب في صالح السياسة الثابتة والواضحة للمحافظين الجدد في واشنطن. فليس من قبيل الصدفة أن يخرج الآلاف من المعارضة فور سماع نبأ الاغتيال بشعاراتهم المعادية لسوريا واتهامها مباشرة بالاغتيال.
ولكي نفهم لماذا كان الاغتيال، على المراقب أن يعود إلى الوراء إلى سنة 1996 حيث وضع هؤلاء المحافظون الجدد سياستهم في دراسة بإشراف نائب رئيس الولايات المتحدة الأمريكيِّ الحالي (ديك تشيني) وثلة المحافظين الجدد الآخرين: ريتشارد بيرل ودوغ فيث وديفيد وميراف ويرزمر وعنوانها: "الاختراق النظيف: استراتجيَّة جديدة لعالم جديد." لقد وضعت هذه الدراسة سيناريو للتخلص من اتفاق أوسلو واستهداف العراق ثم سوريا ولبنان وحزب الله ومن ثم إيران إما بالقوة العسكريَّة أو زعزعة الاستقرار السياسيِّ وإشاعة الفوضى. وهكذا تم التنصل من اتفاق أوسلو على يد نتنياهو في فلسطين وتم احتلال العراق.
لقد أوصت الدراسة أنه على إسرائيل مشاغلة حزب الله وسوريا وإيران
وتأسيس سابقة بأن ليس هناك حصانة للأراضي السورية من العدوان الإسرائيليِّ أو أعوانهم في لبنان. بل أكثر من ذلك على إسرائيل أن تحول أنظار سوريا باستخدام عناصر المعارضة اللبنانيَّة لزعزعة سيطرة سوريا واستقرارها.
وبهذه الطريقة، كما يعتقدون، يتكون شرق أوسط جديد ويتم بلقنة المنطقة بظهور دُوَيْلَاتٍ ضعيفة مفككة تسهل السيطرة عليها وتكون إسرائيل القوة المركزيَّة الوحيدة في المنطقة. ولكن بعد ورطة أمريكا في العراق أعادت ترتيب أولوياتها في تنفيذ الاستراتيجيَّة الهجوميَّة على المنطقة بحيث تقدمت سوريا وحزب الله في لبنان قائمة الأولويات. لقد كانت إيران هي الهدف الأول قبل سوريا ولكن بسبب الورطة الأمريكيَّة في العراق وتجنبًا لمغامرة غير محسوبة في إيران أصبحت سوريا هي الهدف الأول. وذلك لأنه إذا تم استهداف إيران في البداية من قِبَلِ أمريكا أو إسرائيل فقد يكون الرد الإيرانيُّ عنيفًا في مناطق إنتاج البترول وكذلك رد حزب الله في لبنان القادر على إنزال الخسائر الكبيرة بإسرائيل. ولهذا أصبح من المهم إزالة خطر حزب الله أولًا وتحييد سوريا في نفس الوقت قبل التحرك ضد إيران.
وقد تم البدء في زعزعة المنطقة باستصدار قانون محاسبة سوريا ثم قرار 1559 من مجلس الأمن التي تمت رعايته من قِبَلِ الإدارة الأمريكية وفرنسا التي تبحث عن دور ما في المنطقة. ولقد نص هذا القرار في ظاهره على بندين هامَّيْنِ هما: انسحاب القوات السورية فورًا وتجريد حزب الله من سلاحه. وأما ما خفي من بنود ومطالب في هذا القرار أعظم بكثير منها مثلًا مسألة توطين اللاجئين الفلسطينيين في لبنان وتقسيم لبنان بعد ذلك. وعلى هذا الأساس تم اغتيال الحريري لأن اغتياله سيوفر الشروط الموضوعيَّة والغطاء لزعزعة الاستقرار في لبنان وسوريا وإشاعة الفوضى فيهما. وهذا ما تم فعلًا وفور سماع خبر الاغتيال خرجت قوى المعارضة اللبنانية فورًا إلى الشارع ورفعت الشعارات المعدة سلفًا التي تنادي بخروج الجيش السوريِّ وكالت الاتهامات فورًا وبلا تأخير واستباقًا لأي تحقيق إلى سوريا والحكومة اللبنانيَّة. فمثلًا ميشيل عون من منفاه الاختياريِّ اتَّهم سوريا بالاغتيال وردد وليد جنبلاط نفس كلمات ميشيل عون مُتَّهِمًا سوريا والحكومة اللبنانيَّة. وبعد ذلك بساعات قليلة سحبت وزارة الخارجيَّة الأمريكيَّة سفيرتها في دمشق على خلفيَّة اغتيال الحريري. وتبع ذلك تصريح مساعد الخارجيَّة الأمريكيَّة ويليام بيرنز الذي حضر مأتم الحريري الذي قال بأن موت الحريري يجب:" أن يكون دافعًا للوصول إلى لبنان حر ومستقل. ويعني ذلك انسحابًا سوريًّا كاملًا وفوريًّا."
مع العلم بأنه ليس من الممكن ولا المعقول أن تكون سوريا هي المتهمة بذلك الاغتيال وإلا ستكون كمن يفتح النار على نفسه. فأول المتضررين من اغتيال الحريري هم السوريون حتمًا. فليس السوريون على هذا القدر من الغباء حتى يقدموا على مثل هذه الفعلة الشنعاء التي أضرت بهم وخسروا الكثير من ورائها من مجرد الاتهام.
لقد خسرت سوريا الكثير والكثير بموت الحريري.
أما الخروج من هذه المعضلة فهو ليس سهلًا. لأنه مهما قدمت سوريا من تنازلات أو حلول أو تجاوب مع المطالب الأمريكيَّة فلن تكون كافية في نظر الإدارة الأمريكية الحالية لأنه كما قلنا هناك خطط مرسومة ومعدة للمنطقة يجري تنفيذها. ولكن في نفس الوقت لا يمنع من أن تقدم سوريا على خطوات تحصن الجبهة الداخليَّة وتجعل التدخل الخارجيَّ والمراهنة على الخارج مُكَلِّفًا وَصَعْبًا. إن ما أعلنه الرئيس السوريُّ في خطابه جيد وصائب ولكن على النظام السوريِّ أن ينفتح على شعبه ويقوم بالإصلاحات السياسيِّة والاقتصاديِّة التي تُوَفِّرُ الحُرِّيَّاتِ المدنية والديموقراطية وحرية التعبير حتى يستطيع الشعب أن يدافع عن الوطن وعن خيارات الوطن بكل حرية وبكل صمود.
وأما على الصعيد اللبناني فالمطلوب هو ما بيَّنَه سماحة السيد حسن نصر الله في مؤتمره الصحفي بكل وضوح وبكل إخلاص: الوحدة الوطنية والمحافظة على السِّلْمِ الأهلي والعيش المشترك وتطبيق اتفاق الطائف والالتفاف حول المقاومة ورفض التوطين للاجئين وعدم المراهنة على الخارج والإبقاء على العلاقة المميزة التاريخية مع سوريا. على المعارضة الوطنية الحقة أن تعلن مواقفها من هذه الثوابت من أجل لبنان وبقاء لبنان واستمراره كدولة عربية ديموقراطية ذات كرامة وسيادة.