رغم أن المشروع الصهيونيَّ أخذ طريقه إلى التحقق فعليًّا بتوافق فرنسيٍّ بريطانيٍّ في اتفاقيَّة سايكس بيكو (1916) واكتسب الدفعة الأكبر بوعد بلفور البريطانيِّ الشهير (1917) في حقبة لم يكن للولايات المتحدة فيها دور دوليٌّ كبير، ورغم أن الكيان الصهيونيَّ اعتمد في السنوات الأولى من عمره – حتى مطلع الستينات تقريبًا- على دعم أوروبيٍّ في المقام الأول، ورغم أن ظهور الولايات المتحدة للمرة الأولى على ساحة السياسة في العالم العربيِّ لم يرتبط بمشروعات استعماريَّة إلا أن معاداة الولايات المتحدة الأمريكيَّة تكاد أن تكون القاسم المشترك بين التيارات السياسيَّة كافة على الساحة العربيَّة منذ بدأت حقبة التحرر الوطنيِّ. ومع احتلال العراق يبدو أن هذا الإجماع على معادة الولايات المتحدة بدأت تعتريه تصدعات، رغم أنه كان ينبغي أن يزداد تجذُّرًا، وهي ظاهرة تحتاج الوقوف أمامها طويلًا، ولعل أول ما يشير إليه أن النُخَبَ الثقافيَّة والسياسيَّة العربيَّة بالغت في الاستخفاف بقضية الديموقراطيَّة وتسامحت أكثر مما ينبغي مع الاستبداد فكانت النتيجة على غير المتوقع في توقيتها واتجاهها.
تحولات تاريخيَّة
منذ عملية "ثعلب الصحراء" (1998) مرورًا بما سُمِّيَ "قانون تحرير العراق" ومختلف فصائل المعارضة العراقيَّة تتأرجح في موقفها من الولايات المتحدة ومشروعها لتغيير النظام العراقي بالقوة، وإذا كان البناء التنظيميُّ للحزب الشيوعيِّ العراقيِّ – وهو مجرد مثال – قد انشطر إلى نصفين على خلفية التباين في الموقف من التعاون مع الولايات الأمريكيَّة فإن التغيرات التي طرأت على موقف التيارات الأخرى تنطوي على مؤشرات من الخطر تجاهلها، ولعل الأكثر أهمية هنا هو موقف التيارات الإسلامية.
فالاتهام الذي وجهه بيان منسوب لحزب البعث (الشرق الأوسط اللندنية 12/1/2005) للولايات المتحدة بأنها تسعى لإنتاج "إسلام سياسي" في العراق يتناول الظاهرة بلغة تحريضية تفتقر للموضوعية وعمق التحليل، لكنه يكشف عن تطور تاريخيٍّ طرأ على الرهانات السياسية الأمريكية في العالم الإسلامي ستتجاوز آثاره حدود العراق. كما أن الظاهرة التي ينتقدها البيان وصلت إلى مرحلة متقدمة من النضج نظريًّا وعمليًّا في بقاع عديدة من خريطة العالم الإسلامي؛ وبالتالي فمن القصور تصور أن الولايات المتحدة "تسعى" لأنها في حقيقة الأمر ذهبت أبعد من ذلك قليلًا وربما كثيرًا!!!!
وقد فاجأ الكاتب الأمريكي (اللبناني الأصل) فؤاد عجمي مشاهدي قناة دبي قبل أسابيع عندما قال إن بول ولفوويتز أحد صقور تيار المحافظين الجدد يحتفظ بصلات وثيقة مع إسلاميي إندونيسيا حيث شغل منصب السفير الأميركي في جاكارتا ثلاث سنوات خلال الثمانينيات. وقد أطلق وولفويتز نفسه قبل غزو العراق بقليل تصريحًا أثار لغطًا كبيرًا وكان ذا دلالات خطيرة عززها أنه منشور في "نشرة واشنطن" التي يصدرها مكتب برامج الإعلام الخارجي بوزارة الخارجية الأميركية.
وحسب نص تصريحه فإن الإدارة الأمريكية ترحب باحتمال قيام نظام حكم "إسلامي معتدل " في إندونيسيا وهو يرى أن الصفة الغالبة لتقليد إندونيسيا الإسلامي تتسم بالاعتدال والتسامح وأن الولايات المتحدة معنية بأن تحقق إندونيسيا تقدمًا اقتصاديًّا وسياسيًّا كي يقرن مسلمون خارج إندونيسيا هذه السمات بالنجاح. وقد لعب ولفوويتز أيضًا دورًا في بناء جسور بين الإدارة الأمريكية وإسلاميي العدالة والتنمية في تركيا، ومن جاكرتا إلى القاهرة انتقلت الهواجس لتصنع الجدل المبالغ فيه حول دلالات مبادرة الإخوان المسلمين للإصلاح التي أعلنت العام الماضي.
القطيعة والحوار وما بعدهما
ولم يكن التحول مقصورًا على موقف الولايات المتحدة بل شهدت مواقف بعض التيارات الإسلامية تغيرات لم تحظ بالاهتمام الكافي، فبينما كان المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق إحدى أهم الجماعات السياسية الشيعية يرفض لسنوات الانضواء تحت مظلة "تحالف المعارضة العراقية" الذي تعاون مع الولايات المتحدة وأعطى وجود قياداته في المنفى الإيراني لسنوات إحساسًا قويًّا للمراقبين بأنه يلتزم الموقف الإيراني من الولايات المتحدة التي وصفها الخميني بأنها "الشيطان الأكبر"، شهدت الشهور التي سبقت الحرب على العراق تحولًا في موقفه من المقاطعة إلى الحوار وصولًا إلى المشاركة في مجلس الحكم الانتقال ثم الحكومة العراقية المؤقتة، ولعب المرجع الديني آية الله السيستاني دورًا كبيرًا في إضفاء المشروعية الدينية على هذا الخيار.
وإلى جانب موقف المجلس الأعلى للثورة الإسلامية جاءت مواقف "الحزب الإسلامي العراقي" ذي التوجه السني وموقف إسلاميي كردستان لتشير إلى واقع جديد تحولت فيه أمريكا إلى قبول مشاركة الإسلاميين في العملية السياسية وتحول فيه الإسلاميون من القطيعة إلى الحوار، بل تجاوز بعضهم الحوار إلى شراكة أدرك مغزاها الإسلاميون في عدة دول عربية وإسلامية، وهي شراكة ينبغي النظر إليها باهتمام شديد لا مجرد الاكتفاء بإصدار أحكام قيمية أو أخلاقية عليها لأنها على الأرجح ستغري بتكرار التجربة.
والذي حدث في العراق يوشك أن يخلق واقعًا جديدًا في موقف المعارضات العربية من الولايات المتحدة، فتصريح كولن باول عقب توقيع اتفاق السلام الخاص بجنوب السودان بأن ما حدث رسالة للشعوب العربية ليس مجرد مغازلة للمشاعر، فالفصائل الجنوبية نفسها تتحدث عن الدور الحاسم للضغوط الأمريكية على النظام السوداني في التوصل لاتفاق منحهم المشاركة في السلطة والثروة، وبالمنطق نفسه تتصرف الجماعات المسلحة في دار فور.
غير أن التحول الأكثر إثارة للدهشة عكسته مقررات المجمع الماروني الأخير الذي انعقد في أكتوبر 2004. فبعد ما يقرب من قرنين من التحالف الوثيق بين المارون وفرنسا تشير مقررات المجمع لتحول في اتجاه الولايات المتحدة ولعل هذا التحول يفسر للكثيرين من المصدومين التحول الذي طرأ على الموقف الفرنسي من الوجود السوري في لبنان،
ولنقرأ العبارة التالية:
"ومع تنامي أعداد ونفوذ الموارنة في المجتمعات التي حققوا نجاحات فردية باهرة في بلدان الانتشار، أصبح ضروريًا معرفة إمكانية مساهمتهم في تمتين روابطهم بلبنان. وهذا الأمر يبدو مُلِحًّا في الولايات المتحدة، التي أضحت القوة العظمى، والتي، بفعل موقعها ونفوذها، تتمتع بمسؤولية معنوية تجاه الشعوب والبلدان الصغيرة في المساهمة في إرساء العدالة الدولية والاعتراف بحق الشعوب في تقرير مصيرها وصون سيادتها وبناء مجتمع ديمقراطي ونظام سياسيّ يحترم حقوق الإنسان وميثاق الأمم المتحدة. فالكنيسة المارونية، المنتشرة في العالم، لا سيما في الولايات المتحدة، حيث تشكل جاليتها أكثر من نصف الأميركيين المتحدرين من أصل عربي، وحيث لها أبرشيتان، تعتبر أن تنظيم هذه الجالية الفعالة، بات حاجة ماسة. وقد شرعت معظم الدول إلى تحسين صورتها لدى الرأي العام الأميركي والدفاع عن مصالحها لدى الإدارة الأميركية والكونغرس الأميركي".
وبطبيعة الحال لا مفر من الإقرار – جزئيًّا – بمسئولية النظام الرسمي العربي والمثقفين العرب معًا عن الحال الذي وصل إليه النفوذ الأمريكي الذي نجح في زرع أحد أوتاد خيمته في العراق والآخر في المغرب ونحن مكتفون بالشجب الغاضب محجمون عن احتواء أسباب الأزمة بتحول ديموقراطي يغني المعارضات العربية عن التشتت في المنافي والبحث عن حليف في "الخارج" تهمه مصالحه في المقام الأول، وقد عجز نظامنا الإقليمي في اختبار الغزو العراقي للكويت والغزو الأمريكي للعراق مرورا بأمة جنوب السودان التي ظلت تنزف أمام أعيننا لنصف قرن، وأزمة الصومال، و. . ..
فهل تفتح القمة العربية القادمة بابا للأمل في عالم عربي يستعصي على مشروعات القوى الكبرى مستقويًا بالشعوب لا عليها، دعونا نأمل!!!!

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية