لا شيء يبدو في الأفق القريب أو البعيد يستطيع حمل ولو قليلٍ من رذاذ الأمل، شبه المفقود لبقية الشعوب العربية التي ابتليت من غير أن تدري بحكم غريب الأطوار، غريب البنية، موبوء بفيروسات أيديزية، بعد أن ظنت نفسها هذه الشعوب المستضعفة قد حطمت قيود الاستغلال، واستنشقت عبير الحرية، بزحزحة آخر جندي من جنود الاحتلال، خارج الديار العربية. كما لا شيئ يعبر عن استقامة الأوضاع العامة لهذه الشعوب العربية رغم تبني "حكومة العالم"الشرطي "أمريكا" لمشروع الإصلاح الكبير داخل بيت الأنظمة العربية، و الذي تنكر لهذا الإصلاح زعماء العرب، وعدّوه إلى وقت قريب جدا ترفا فكريا، و أحلام يقظة تتلهى فقط بها الشعوب العاطلة والمقعدة. القادة العرب سيجمعهم الهم القديم الجديد في قمة الجزائر، المتمثل في الصراع العربي الإسرائيلي، أو إن صحت العبارة، الإنصياع العربي لإسرائيل، ومدى قبول أمريكا وإسرائيل لما سيتمخض من قرارات عن هذه القمة.
وفي جمعهم المحمود هذا كما درجوا على تسميته، و تسويقه للسواد الأعظم من شعوبهم، سوف يتم التطرق إلى مستقبل المنطقة العربية مشرقها ومغربها، ومستقبل من يحكمها بالوكالة، ومن يحكمها بالقرار المباشر.
كما سيكون الحديث بكل تأكيد عن تعنت لبنان حول قرار 1559، وتمسكها باتفاق الطائف البائد، الذي لم يعد له مكانة في زمن الأحادية الأمريكية، وعن سوريا التي لم تبد أي نية حسنة تجاه الكيان الإسرائيلي، ومد جسور التعاون معه، بغرض تفكيك حزب الله، وطرد قادة حركة حماس التي فقدت من قبل واحدا منهم وهو عز الدين خليل في دمشق على يد الموساد الإسرائيلي.
سيحتكم زعماء العرب في قمة الجزائر للأجندة الأمريكية ليس لأن أمريكا هي من وضعت لهم ما يقولونه،فحاشا أن نقصد ذلك،ولكن تلك الأجندة المعلومة من السياسة بالضرورة الأمريكية، وما تريده إسرائيل من ورائها. وليس هذا خافيا على أحد أن ما سوف يقرر عربيا في هذه القمة سوف يمرر على الغربال الأمريكي، لتبقي ما يناسبها وما يناسب هؤلاء الزعماء، وتطرح ما لا يناسب الجميع، إن وجدت ما تطرحه، لأن كل شيء سوف يكون بميزان وبالقدر الذي لا يجعل راعي السلام، وحامي الديمقراطية في العالم الأكبر يستشيط أو يثور غضبا.
قد يقول قائل أن أمريكا جادة في مسعاها هذه المرة، وما لم تحصل عليه الشعوب العربية من قادتها، من إصلاح ديمقراطي، وإصلاح اجتماعي، سوف تحصل عليه تحت برنيطة أمريكا. وتعد هذه القمة العربية بالجزائر فرصة مواتية لهذه الشعوب المستضعفة، كي تفتك حقها في الإصلاح، وتفرض على الحكام العرب الانصياع إلى مطالبها من ديمقراطية، وحق المشاركة في القرار السياسي المحتكر منذ الأزل، من قبل الزمر الحاكمة والسلالة الأسرية، وبعض الأزلام.ومادامت حجة أمريكا في ردع كل نظام عربي يجرؤ ويتفوه بكلمة لا لها، أو يحاول أن لا يمتثل لأوامرها وقراراتها، فهذا كفيل بأن تضع الشعوب العربية،ثقتها، وبيضها كاملا في سلة أمريكا، وتنتظر الأمل الذي ضيعه هؤلاء الزعماء في يوم من الأيام في الحياة الكريمة،والمستقبل المشرق.
لكن هل نستطيع أن نتصور أن نفس الزعماء لم يتفطنوا إلى ما تفطنت إليه شعوبهم، أو أنهم لم يدركوا ما يحاك ضدهم،إذا ما لم يستسلموا لما تقوله أمريكا، وبخاصة وأن مثال العراق لا يزال ماثلا أمام أعين الجميع، ولا يزال يشكل العبرة التي لا يمكن لأي أحد أن يتنكر لها أو يدير لها ظهره.؟.كذلك هل نستطيع أن نتصور أن أمريكا نفسها جادة في ما تقوله عن هذه الإصلاحات الكبيرة، وهي تعلم أنها تطلب ذلك من أنظمة غارقة في الفساد حتى الأعناق، كما تعلم أن الأنظمة الفاسدة لا يمكن لها أبدا أن تقوم بإصلاح لأن ذلك ضرب من المستحيلات، فكما يقال شجرة الصنوبر لا تمنح أبدا الموز. فما نستطيع قوله في المشهد العربي الراهن أن أمريكا تعرف ما تريد حسب مشروع المحكمة الجنائية الدولية الذي أقرته أغلب دول العالم عام 93، بحيث أقرت مبدأ التدخل واختراق سيادة أي دولة في حالة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، انطلاقا من احترام حقوق الإنسان الذي هو مقدم على أي شيئ آخر، بما في ذلك سيادة الدول، كما قننت عملية التدخل، ومحاكمة المسؤولين عن ارتكاب تلك الجرائم، باعتيارهم مجرمي حرب. كما أن زعماء العرب أيضا يعرفون ما يريدونه من أمريكا، ولو على وصايتها. ورأينا كيف أن الزعيم التونسي غازل أمريكا، على حساب الإصلاحات السياسية الداخلية، وعلى حساب حقوق الإنسان، عن طريق توجيه دعوة لرئيس وزراء إسرائيل أرييل شارون من أجل زيارة تونس، وكيف أن الزعيم الليبي أرضى أمريكا بالرضوخ إلى إملاءات الصهاينة، وما يطلبونه من تعويضات مادية، وهو الذي كان مسخوطا عليه من قبل أمريكا رغم أنه لم يكن المشتبه فيهم في قضية لوكربي. ولا ندري قد يقف زعيم عربي في هذه القمة ليعلن عن مسئوليته المباشرة، وغير المباشرة على محرقة "الهولوكوست"، إذا لم يجد ما يرضي به أمريكا مغازلا، وحتى يبدو كجنتلمان عربي، يفهم في الأصول، والتوبة من الذنوب. وأن مصلحة الاستقرار الداخلي أولى، وأحق من ارتكاب حماقات قد تأتي على كل ما هو أخضر ويابس.
في واقع الأمر لا أحد من الشعوب العربية يأمل خيرا من هذه القمة التي تأتي في جو مكهرب عربيا، وكأنه أريد لها أن تعقد في مثل هذه الظروف. و زمن هذه القمة مدروس بدقة،ولا مجال للصدفة فيه كما يذهب إلى ذلك كثيرون، بل تعتبر الفصل الأخير لمسلسل التنازلات، وعقدة التطبيع مع الكيان الإسرائيلي. وتأتي قضية اغتيال الحريري، لتعطي دفعا قويا للمسار التطبيعي من طرف جميع الدول العربية التي لا تزال تتلكأ في علاقاتها العلنية الديبلوماسية مع إسرائيل.
والمتتبع للتسلسل الزمني لتوقيت لأحداث يفهم الدقة غير المتناهية التي تعمل وفقها إسرائيل، وكيف استطاعت أن تجعل الجميع يعلن بصورة جلية عن ما ينبغي القيام به، خصوصا وأنها استطاعت ،أن تصفي كل المناوئين لها بدءا من الشيخ الشهيد أحمد ياسين، وعبد العزيز الرنتيسي، والزعيم أبو عمار وانتهاء بالشهيد رفيق الحريري الذي يمثل العقبة الكأداء أمام تطبيق قرار 1559 الذي يراد له أن يكون بديل اتفاق الطائف.
كما يفهم كل متتبع لكرونولوجيا الأحداث مدى قدرة أمريكا على إسكات كل صوت نشاز، وكل قوة تستأسد على إسرائيل، أو تحاول أن لا تعترف بها. وإذا كانت في وقت مضى إسرائيل هي من يجري وراء هذه الأنظمة العربية لنيل اعتراف منها، هاهي الأيام تدور لتجد إسرائيل نفسها في موقع قوة كبيرة يسمح لها بأن تكون الأنظمة العربية هي التي تلهث لتحوز على الرضى الإسرائيلي، وأخشى ما أخشاه أن ينتهي اعتراف هذه الأنظمة العربية بإسرائيل. أن تعلن إسرائيل نفسها بأنها لا تعترف بهذه الأنظمة العربية جملة وتفصيلا، مهما غنوا من سمفونية جميلة تعلن الولاء والطاعة، وتمجد المسار التاريخي للصهيونية العالمية.