عندما وضع ابن خلدون أسس علم الاجتماع وضع – دون أن يدري – أسس "علم المستقبليات"، فمحاولة تجريد قواعد للعمران البشري كانت تعني بالضرورة اضطراد بعضها على نحو يتسم يقدر من الثبات، ومع الوصول لقوانين من هذا النوع يصبح التوقع في مداه القريب والاستشراف في مداه البعيد متاحًا. وبقدر ما تعد السياسة مواءمة بين متعارضات ومفاوضة بين خصوم يعد "التخطيط السياسي" للمستقبل مسعى للتحكم في العوامل التي تتفاعل على نحو حر لو تركت دون تدخل، وهنا نصبح أمام سبيكة من الإدراك الواقعي والخيال المحسوب والطموح إلى استباق الآتي. القيود والحوافز
وربما كان المأزق المزمن الذي يعيشه العالم العربي أحد عوامل غياب الفكر المستقبلي الذي يفترض وجود قدر كبير من الثقة في النفس وإرادة الفعل، فالمستقبل مساحة عريضة من الإمكان تتحول بالإرادة والبصيرة الثاقبة إلى مخطط يمكن إنجازه مهما بدا كبيرا. والافتقار للنظرة المستقبلية يكرسه من ناحية أخرى افتقار للخيال السياسي، فاتخاذ الواقع مبدأ ومنتهى للنظر السياسي يفضي إلى الجمود والتحول من "فاعل" إلى "منفعل".
وفي كل الكيانات السياسية التي تملك رؤية كونية محددات رؤية مستقبلية يمكن البناء عليها، لكن العقل السياسي العربي أصيب بعجز عن التخيل ولم يعد قادرًا على تصور التحرك وفقًا لمخطط معد مسبقًا. وبطبيعة الحال لا يعني هذا الوقوع في أسر التهويمات وأحلام اليقظة. ومن يراجع ما شهده نصف القرن الماضي من تجارب نجاح اقتصادي وسياسي مخططة سلفًا ويقارنها بحصيلة نصف القرن الماضي من المسيرة العربية يذهله البون الشاسع بين قدراتنا وقدرنا.
فتجارب ما يسمى بالنمور الآسيوية لم تكن لتنجح لولا خيال سياسي جرئ أعمله أصحابه دون خوف من الفشل، فالخوف من الفشل أحد الأمراض التي تدفع الأمم الكبيرة لسكون تكون تداعياته أكبر من الفشل نفسه. وهذه السمة توجد غالبًا في الأمم ذات الثقافات الغنية عندما يسيطر عليها إحساس بأن ذاتها مهددة، فعندئذ تصبح كل خطوة محل شك وموضع تردد، فمن المسلم به أن حماية الوجود الذاتي أسبق في الأولوية من ترقية الأحوال الاقتصادية أو السياسية، ويحفل الخطاب السياسي العربي بأعراض هذا المرض الذي يجعلنا نتشكك في نتائج كل تغيير ممكن، يستوي في ذلك الإصلاح السياسي أو الاقتصادي أو الثقافي أو . . . . .
كابوس الكونية
وتشير الاستجابة العربية لمقولات "الكونية" و"الكوكبية" وأشباهها رفضًا للفكرة على نحو مبدئيٍّ وهو رفض يتستر وراء نقد يحاول أن يبدو منطقيًّا لمقولاتها، وبالتالي فإننا مشغولون بشجب فكرة العالم الواحد أكثر من انشغالنا بأن نسعى قدر الطاقة لأن نجعل محتواها أكثر عدالة وأصدق تعبيًرا عن تعددية حضارات العالم. وما يؤكده الخطاب التحليلي العربي بشأن عالم متعدد الأقطاب لا يخرج عن كونه نوعًا من الهرب من حقيقة نشعر أننا غير مؤهلين لخوض غمار المنافسة حولها.
ولنأخذ مثال انهيار الاتحاد السوفيتي، فقد كان بالنسبة للأمريكيين: أمنية ونبوءة وتصورًا مستقبليا، فمنحتهم الأمنية أملًا، وأعطتهم النبوءة ثقة، وكان التصور المستقبلي جسرًا بين الكائن والمأمول. وخلال التاريخ الغربي طرحت تصورات مستقبلية لاقتصاد العالم وأمنه وسياسته، صحيح أن كثيًرا منها بدأ وانتهى مجرد "تصورات"، لكن تحول المستقبليات من ضرب من التنجيم إلى علم ضيق الهوة إلى حد كبير بين الكلام عن المستقيل وتخطيطه.
والحد الأدنى من الاكتراث بالمستقبل يكون بوجود تصورات في مواجهة الاحتمالات الأكثر رجحانا بحيث لا يجد صانع القرار نفسه أما مفاجئات مربكة، وقد كان المنطق الذي تعامل به النظام الرسمي العربي مع الغزو العراقي للكويت نموذجا لغياب مثل هذه التصورات. فرغم أن الأزمة كانت لها جذور تعود إلى عقد الستينات لم يكن هناك سيناريوهات معدة للأزمة قبل حدوثها. وفي المقابل كان لدى الولايات المتحدة سيناريوهات افتراضية تتضمن التداعيات وردود الأفعال المحتملة للأطراف كافة والبدائل الممكنة، هو ما اعتبره البعض دليلًا قاطعًا على أن مؤامرة أمريكية دبرت ونفذت بشكل حرفي.
وحقيقة الأمر أن الإدارة الأمريكية لديها سيناريوهات مماثلة لكل الأقطار العربية فهي لا تستبعد أن يتحول أي خلاف حدودي عربي إلى صراع مسلح، بل إنها أصبحت – وقبل احتلال العراق بسنوات – تعد نفسها لاحتمال حدوث انقلاب عسكري في بعض الدول العربية. وقد أجرى الجيش الأمريكي مناورة قبل عامين كانت الأكبر في تاريخ أمريكا لتكون قادرة على التدخل لإجهاض انقلاب عسكري في دولة عربية صديقة – لم يكشف عن اسمها – في حالة وفاة حاكمها!!
هكذا نريد العالم!وفي اللحظة التي يكون لدى صانع القرار العربي فيها ملف يحمل عنون "هكذا نريد العالم" نكون قد بدأنا طريقنا لبناء المستقبل، لا عبر التمني وبناء الأسوار العالية لتحمينا من السيناريوهات المستقبلية التي يضعها الآخرون بل بوضع سقف يتناسب مع طموح أمة تملك من المقومات ما يمكنها من أن تسهم في صياغة مستقبل كوكب الأرض بل مصيره. وقد كنت أفكر في إيراد أرقام عن أعداد المؤسسات المتخصصة في المستقبل في الشرق والغرب للمقارنة بين واقعين، غير أن ما يتداوله الإعلام العربي من معلومات عن المشروعات الهزيلة لإصلاح الجامعة العربية والنظام الرسمي العربي السجالات الرسمية العربية حول الممكن والمأمول صرفني عن ذلك، وعوضا عن الأمل في المستقبل صرت أشعر بالخوف على حاضرنا الذي صار يبدو بلا مستقبل.
فالمستقبل الذي لا نجهد أنفسنا في تخيله وتخطيطه هو في الغالب مجهول سوف يدهمنا ونحن عنه غافلون.