عندما يسقط العدو اللدود لإسرائيل، ياسر عرفات، كيف تتناول هذه الصحافة الإسرائيلية مرض الرئيس الراحل وسفره إلى فرنسا للعلاج ووفاته فيما بعد؟ هذه موضوعات يرصدها مركز حماية الديمقراطية في إسرائيل "قيشف" عبر متابعة ثلاث من الصحف الإسرائيلية اليومية " يديعوت أحرنوت، ومعاريف، وهأرتس"، وثلاث محطات تلفزيونية إسرائيلية هي القناة الأولى والقناة الثانية والقناة العاشرة". ويبحث التقرير المنشور في السابع من آذار/مارس والذي سنعرض أبرز محاوره لاحقًا أسلوب تغطية أحداث مرض وموت الرئيس الفلسطيني عرفات منذ اليوم الأول في الخامس والعشرون من شهر أكتوبر 2004 وحتى التاسع عشر من نوفمبر من نفس العام أي بعد عدة أيام من انتهاء مراسيم الدفن.
يموت عرفات وتبقى الفكرة حية:
ركزت التقارير الصحفية الإسرائيلية بشكل خاص على تعزيز "الفكرة" السائدة لدى الإسرائيليين والقائلة أن عرفات هو وحده المسؤول عن الدمار الذي حل بالمنطقة وما نتج عنه. ولكن كانت هذه الفكرة مصدر خلاف في إسرائيل وتجلت بشكل واضح عند نشوب الخلافات الداخلية في جهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلي والتي ظهرت من خلال سلسلة المقابلات التي نشرتها صحيفة هأرتس على صفحاتها منذ منتصف العام 2004، وانتقد في هذه المقابلات ثلاثة من ضباط الاستخبات السابقين وهم: عاموس مالكا وعاموس ليفي وماتي شتاينبرغ بشدة الفكرة المتبناة من قبل المؤسسة الأمنية والحكومة الإسرائيلية والتي تحمل عرفات وحده المسؤولية عن إنهيار عملية السلام وتفجر موجة العنف التي إجتاحت المنطقة.
ويشير التقرير الذي يعتبر الأول من نوعه وأصدره قشيف بالتعاون من مؤسسة مفتاح الفلسطينية في إطار مشروع رقابة الإعلام إلى استمرار الإعلام الإسرائيلي في السنوات الأخيرة في تبني وتعزيز هذه الفكرة دون تعرضه لأي نقد يذكر، وأن البحث المتعمق في التغطية الإعلامية لأحداث مرض وموت الرئيس عرفات يؤكد أن هذه "الفكرة" تشكل الأساس في صياغة التقرير الصحفي الإسرائيلي المتعلق بعرفات ومن سيخلفه وحتى بالمجتمع الفلسطيني بشكل عام.
"الرجل ذو الذقن والكوفية والمسدس"
يؤكد التقرير أن الصحافة الإسرائيلية عملت على إظهار صورة عرفات على أنه شخص أسطوري وشيطاني وأنه عدو لإسرائيل، وكذلك فإن الاخبار عن إحتمال وفاة عرفات استقبلت بابتهاج واضح، فاستخدمت كل من صحيفتي يديعوت أحرونوت ومعاريف مصطلحات ذم واستخفاف واتهام بشكل متكرر بحق الرئيس، ومثال ذلك بعض عبارات مثل "خلاص جيد" و "جاء يومه" و"عرفات انتهى" و"الرجل ذو الدقن" و"الرجل الدموي والشرير" و" موضوع خلاف حتى موته".
وإن موضوع موت عرفات والبهجة المتوقعة لهذا الحدث عبّرت عنه صحيفة يديعوت أحرونوت في اخبارها الرئيسية وفي عدديها الصادرين بتاريخ 8 و11 نوفمبر، حيث قالت الصحيفة أن عهد عرفات قد وصل إلى نهايته وقالت أيضا "كم من الوقت علينا ان نتظر؟".
ويلحظ التقرير أيضا أنه في أثناء عرض لمحات تاريخية وقصص تصور حياة الرئيس عرفات أنه يتم إبراز تلك العناصر التي تتناغم مع الفكرة المراد إيصالها عن عرفات، وفي الوقت نفسه تم التقليل من شأن تلك الصور التي تتعارض مع الفكرة المراد إيصالها، وقد قدم الصحفي أيهود إيعاري وبطريقة لا تخلو من التهكم والسخرية صورة عرفات على أنها شيطانية واستخدم النكات وحاول الكشف عن صورة عرفات" الحقيقية" حسب زعمه.
ومن جانب آخر وبحسب التقرير لم ينكر الصحفي أوديد غرانوت على القناة الأولى هذه الفكرة ولكنه مع ذلك تحدث عن عرفات بإسلوب أكثر عقلانية واشتمل حديثه على عبارات تصف جوانب أخرى أكثر عمقا في شخصية عرفات مثل دوره في عملية السلام وتأييده لخيار الدولتين.
المرأة التي بجانبه، سهى والإعلام:
ولقد نشط الإعلام الإسرائيلي في تغطية أخبار زوجة الرئيس عرفات وسلوكها بجانب فراش مرضه فقد إمتلأت أعمدة الإشاعات بهذه الاخبار التي إمتازت بالإشتشراقية والشوفينية، وعملت كل من صحيفة يدعوت أحرنوت والقناة الثانية على إبراز أخبار سهى عرفات في أخبارها الرئيسية ، حيث وصفت زوجة عرفات في أخبارها الرئيسة بالمرأة الشيطانية وأن طموحها الوحيد هو الحصول على المال وأنها كانت تحكم الدائرة المحيطة بعرفات بسلطوية مطلقة، ومن العبارات التي أطلقت عليها " الطموحة الشقراء" و" المرأة الشابة التي تلمع عينيها لرؤية الملايين التي سترثها".
وهنالك فقط يمكن قراءة صور أخرى عن حياة سهى عرفات ودورها ودوافعها، ومثل ذلك أسباب إبتعادها عن زوجها، ولكن مثل هذه التفاصيل لا تجعل الأخبار صالحة لتنشر على الصفحة الأولى كأخبار رئيسية، ويذكر التقرير أنه لم يفت مقدمي البرامج الإخبارية على القناة الثانية أي فرصة للتسلية بنكات شوفينية عن سهى، وتركت الباب مفتوحا على مصرعيه لإهانتها والتشكيك بشخصيتها وبدوافعها، ومن هؤلاء الصحفي (جادي سوكينيك) الذي سمح لنفسه أن يخلص علاقة عرفات بسهى بالكلمات :"ليست علاقة بالمعنى الحقيقي ولكن هذا يستحق العناء".
صدمة وارتباك في الشارع الفلسطيني:
وتعتبر التقارير الإخبارية حول ما يرشح من أخبار الطرف الآخر أحد أهم أدوار الإعلام وخاصة في مناطق الأزمة والنزاع، وعلى الرغم من أن الصحافة الإسرائيلية لا تعبّرعن مزاج وردود فعل الجانب الفلسطيني إلا أن معظم وسائل الإعلام الإسرائيلية التي شملها التقرير لم تعتمد في وصفها ردود فعل الفلسطينيين على أية مصادر فلسطينية موثوقة، وكل ما تم عرضه كان سطحيا وعاما، باستثناء الصحفية "عمير هس" من صحيفة هأرتس والتي تعيش في مدينة رام الله.
ولقد أعطت كل وسلية إعلام إسرائيلية صورة مختلفة في وصفها للموقف الفلسطيني تجاه حالة عرفات الصحية، حيث تحدث البعض عن الخوف والحداد والصدمة في الشارع الفلسطيني، بينما تحدث البعض الآخر عن اللامبالاة وعدم الإهتمام وجميعهم بنفس الدرجة من العمومية وعدم الدقة.
معارك الخلافة، الخطوة الأولى نحو "فكرة" أو مفهوم جديد:
وبحسب التقرير استعرضت الاخبار الرئيسية في الصحف وكذلك مقدمي البرامج الإخبارية بشكل عام "معارك الخلافة" وإحتمالية حدوث إنفجار غير متوقع للعنف على الرغم من أن نفس هؤلاء المراسلين تحدثوا عن توقعات نقل هادئ للسلطات وهذا ما توقعته أيضا أجهزة الامن الإسرائيلية من نقل سلس للسلطات وقيام انتخابات منظمة.
كما رأت محطات التلفزيون أنه يمكن حصول حالة من العنف وموجة من الشغب. وعلى سبيل المثال وفي تقرير لها قالت صحيفة يديعوت أحرونوت :" قد تقوم الحشود الكبيرة بمسيرة تظاهرية نحو القدس وسيوضع جيش الدفاع الإسرائيلي في أقصى حالات التأهب، بينما في بعض المقالات وفي العدد نفسه تم استعراض توقعات أجهزة الأمن والتي قالت أن الجنازة ستنتهي بهدوء، أما صحيفة هأرتس فقد أكدت حدوث سيناريو مخيف مما يتطلب أعلى حالات التأهب في جهازي الشرطة والجيش"، وقالت الصحيفة أيضا الشرطة قلقة من إمكانية حدوث أعمال شغب ضخمة تؤدي إلى الهجوم على حائط المبكى ولم تتحقق أي من هذه التنباؤات التي قيلت في هذا الشأن .
"إعادة البنادق لهم" هل ستبدأ فعلا مرحلة جديدة من الإشارات الإسرائيلية:
وفي الوقت الذي عكفت فيه الصحفة الإسرائيلية صورة الفلسطينيين في الأخبار الرئيسية في الصحف ونشرات الأخبار بأنهم في حالة من العنف واللامبالاة وتظهرهم في تناحر على الخلافة، تظهر هناك صورة إيجابية للجانب الإسرائيلي من ما تخذه إسرائيل من إجراءات تجاه الفلسطينيين بعد موت عرفات حيث تم إبرازها كإشلارات إيجابية بالنسبة للفلسطينيين.
ومن تلك الخطوات أن سمحت الحكومة الإسرائيلية لعرفات السفر للعلاج في أي مكان بالعالم ووافقت أيضا على عودته إلى المقاطعة بعد أن كانت تحاصره وتمنع حركته، كذلك أعلنت أنها سوف تسمح لمواطني القدس الشرقية بالمشاركة في الانتخابات الفلسطينية ومن تلك الإشارات أيضا كبح جماح جيش الدفاع الإسرائيلي والتوقف عن العمليات العسكرية أثناء فترة الحداد العام على موت الرئيس، والسماح للشرطة الفلسطينية بحمل السلاح مرة أخرى والمزيد من هذه التسهيلات.
وعلى الرغم من أن الإعلام أوضح بشكل جيد بأن تلك الإشارات أو التسهيلات قد تم إعطائها نتيجة للضغوط الأمريكية على إسرائيل وحتى أن بعض التقارير ذكرت بأن هذه الإشارات أعطيت لعدم توفر بديل أو كمكافأة للفلسطينيين على سلوكهم إلا ان الصحافة حاولت إبراز تلك الإشارات بإعتبارها كرم أخلاق وحسن نوايا من الجانب الإسرائيلي.
هل موت الرئيس شيء جيد؟ ومن هو الخليفة؟
لقد شغل موضوع الشخصيات المرشحة لخلافة عرفات وخصوصا أبو مازن مساحة كبيرة في الصحافة الإسرائييلية بطريقة هيأت لاستمرار "الفكرة القائمة على عدم وجود شريك فلسطيني"، وعن إستخدام بعض العبارات الرئيسة في الصحف مثل "شرق أوسط جديد" و "عهد جديد" وعبارة مثل "الآن يوجد شريك" إنما أكدت كل هذه العبارات على مشاعر الابتهاج لبداية عهد جديد حافل بالتوقعات وحدوث تغيرات جوهرية بعد موت عدو إسرائيل الأول، كل هذا كان من شأنه أن يرسخ حقيقة أن عرفات في حياته لم يكن يشكل شريكا.
أما فيما يتعلق في احتماليات خلافة أبو مازن لعرفات فقد حاولت الصحافة الإسرائيلية عرض ثلاثة تفسيرات تؤدي جميعها إلى النتيجة نفسها وهي أنه لا وجود لشريك فلسطيني، وأولى هذه التفسيرات هي أن أبو مازن خليفة عرفات ولكنه لا يختلف عنه وبالتالي فهو "ليس شريك"، أما ثاني هذه التفسيرات فيقول أن أبو مازن يختلف عنه ولكنه أضعف وبهذا لا يمكن إعتباره "شريكا" نظرا لعدم قدرته على إحداث التغير المطلوب، والتفسير الثالث يقوم على القول أن أبو مازن يختلف عن عرفات وهو على استعداد لقبول مطالب إسرائيل ولكن عندما يثبت عدم صحة هذا التفسير يصبح أبو مازن "ليس شريك" بشكل تلقائي، وإن التوقعات بحدوث تغيير سريع إنما يدل على قصر نظر ولا يدل على حقيقة أن التغير معقد وصعب ولا يؤذ كذلك الطرف الآخر في عين الاعتبار.
نظرة الإعلام الإسرائيلي نحو الأيام القادمة:
بعد مرور أربع سنوات تبنّت فيها معظم وسائل الإعلام "الفكرة" أو المفهوم القديم يمكن رؤية مرحلة من التفاؤل قد تحمل مفهوم جديد وهو "أن عرفات وحده كان المسؤول عن الوضع والآن مات عرفات وإسرائيل تمد يدها للسلام ولكن لا يوجد أحد بعد عرفات يمكن التحدث إليه".
وإن وسائل الإعلام الإسرائيلية وفي أثناء تغطيتها للأيام الأخيرة من حياة عرفات لم تفعل أي شيء لكي تقنع الجمهور الإسرائيلي بأن مستقبل النزاع الفلسطيني الإسرائيلي يعتمد على طرفي النزاع وليس على الطرف الفلسطيني فقط.
ونتيجة لهذه الفكرة فقد أهملت الصحافة الإسرائيلية دور دولتها في حل النزاع، وربما تتغير في المستقبل وتصبح أكثر توازنا في التطية الإعلامية.