سيدي وقائدي. بهاتين الكلمتين خاطبت بهية الحريري شقيقها الرئيس الشهيد في ذكرى مرور شهر على اغتياله. غير أن خطابها المدروس، مبنى ومعنى، نطق بـِ " الحقيقة " المغايرة لتلك التي ظهرت، بالعربية والإنكليزية والفرنسية، على يافطات حملها ألوف المشاركين في التظاهرة الهائلة التي ملأت ساحة الشهداء في قلب بيروت.. " الحقيقة " الأولى كانت ترمز إلى سؤال ضاغط ملحاح: من قتل رفيق الحريري؟
الحقيقة الثانية كانت تجيب عن سؤال ضاغط آخر: من يخلف رفيق الحريري؟
خطاب بهية الحريري لم يجب عن السؤال الأول وإن ظلّت أصابع الارتياب تشير عبر كلماته الواضحة إلى أجهزة المخابرات اللبنانية والسورية. إلَّا أنه أجاب عن السؤال الثاني بالإيحاء بأن خليفة رفيق الحريري هي بهية الحريري.
أجل، تجلّت بهية الحريري أمام الجماهير، بنطقها الحازم ومواقفها الثابتة سيدةً وقائدةً. كررت مطالب المعارضة فأرضت الأصدقاء والحلفاء، وأكدت التزامها اتفاق الوفـاق الوطني ( الطائف ) فأرضت حزب الله وحلفاءه وأراحت سوريا. لعلها فاجأت الجميع بإعلانها التحدث باسم حزب الله وحركة " أمل " بما يخص التزام اتفاق الطائف وحماية المقاومة، وتعهدت – وسط استغراب جمهور المعارضة المناوئة لسوريا – " بأننا هنا نمثل أيضًا الرئيس نبيه بري وسماحة السيد حسن نصر الله وكل المقاومين الوطنيين من أحزاب وأفراد (...) أنهم معنا ومصرون على أن نبني معهم مستقبل لبنان العظيم ".
لفظت هذه الكلمات بإصرار متجاهلةً تعابير صوتية سلبية من متظاهرين شبان معادين للمقاومة وسوريا والفلسطينيين. في المساء جاءتها سريعًا تحيــةٌ من بري: " لقد جمعت الأخت بهية في كلمتها المسؤولة بين كل التظاهرات والاعتصامات وبالتالي عبّرت عن لبنان كله ". محمود قماطي، نائب رئيس المجلس السياسي في حزب الله، رد أيضًا على التحية بمثلها مشيدًا بكلمتها التي " تضمنت نقاطًا إيجابية كثيرة ".
إشارة السيدة بهية إلى السيد نصر الله مديحٌ للمقاومة واستعداد لحمايتها. إشارتها إلى بري تأكيد على استعدادها لاستئناف التعاون مع كتلته " الموالية " في المستقبل.
ماذا عن العلاقة مع سوريا؟
جاءت كلمات السيدة بهية، رغم الألم والمرارة، دافئة ولافتة: " لن نقول وداعًا سوريا أو شكرًا سوريا بل إلى اللقاء مع الشقيقة سوريا لأن الأشقاء لا يتباعدون... واللبنانيون أحرار مستقلون، لا يتنكرون ولا يغدرون ".
ليس كلام السيدة بهية هذا مجرد مجاملة أو إشارة لياقة في إطار مناسبة احتفالية، بل كلام مسؤول من سيدة قيادية مسؤولة تنظر بعقل مفتوح إلى سدة المسؤولية وتقدّر متطلباتها وأبعادها. هي تعلم أن للخلافة شروطًا ومتوجبات تمرّ بالضرورة بسوريا وبالجنوب اللبناني حيث المقاومة والشيعة والقوى الوطنية والديمقراطية.
بعد أن بدت وكأنها ترشح نفسها بكلامها القيادي المسؤول لخلافة شقيقها الرئيس الشهيد، هل تتصدى السيدة بهية لمصالحة أطراف الموالاة والمعارضة؟
الحقيقة أن مصطلحي " الموالاة " و" المعارضة " ليسا دقيقين بعد اغتيال الحريري وانسحاب القوات السورية. من يوالي الموالون، ومن يعارض المعارضون؟ سوريا خرجت من لبنان، فهل يعقل أن يبقى بعض الموالين على ولائهم لها، ولماذا؟ حزب الله لم يكن يومًا مواليًا لسوريا بالمعنى التقليدي بل كان دائمًا حليفًا، وهو بعد خروجها من لبنان سيكون حليفًا ندًّا. بري لم يكن يومًا مواليًا للرئيس إميل لحود بالمعنى التقليدي بل كان حليفًا ندًّا هو الآخر. أما المعارضة فهي أصلًا معارضات: بعضها كان دائمًا معارضًا للحود وبعضها الآخر كان معارضًا لسوريا من دون أن يكون معارضًا للحود. اليوم يجد بعض المعارضين أن من الأفضل له شخصيًّا ولمستقبله السياسي أن يجاري زعيم اللقاء الديمقراطي وليد جنبلاط في معارضة لحود ومطالبته بالاستقالة، فيما بعضهم الآخر يرى غضاضة وسابقة غير محمودة العواقب في مطالبة رئيس الجمهورية بالرحيل قبل انتهاء ولايته.
الحقيقة أن إحدى أبرز عُقَد السياسة اللبنانية من الآن فصاعدًا هي مسألة ولاية لحود. هل أفضل له وللبلاد أن يغادر بإحسان أم أن يصمد بعنفوان ضد الضغوط الأميركية على سوريا ولبنان؟
جنبلاط يجيب بلا تردد: " ليرحل وأجهزته الأمنية مع آخر شاحنة سورية "! المعارضون الموارنة من أنصار البطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير يتحفظون عـن مسألة مطالبته بالاستقالة لاعتبارات تتعلق بهيبة المنصب الرئاسي الذي خصصته الأعراف والتقاليد السياسية اللبنانية للموارنة دون سواهم. أما لحود فيبدو مستعدًا لكلا الاحتمالين. إنه على استعداد للصمود في وجه التدخل الأجنبي، لا سيما ما يتعلق منه بتجريد المقاومة من السلاح إذا ما وقفت ضده، إلى جانب حزب الله، معظم القوى السياسية اللبنانية، مدعومةً بسوريا، وقفة رجل واحد. أما إذا تعقدت الأزمة وتفجرت اضطرابات وسالت دماء وتهددت وحدة الجيش بالتصدع فإن لحود يبدو مستعدًا للرحيل أملًا بتسهيل أمر ترميم الوحدة الوطنية.
في معمعة التباينات والتجاذبات تبدو بهية الحريري منحازة تمامًا لمطلب إقالة قادة الأجهزة الأمنية، لكنها لم تصل بعدُ إلى حدّ تبني دعوة جنبلاط إلى ترحيل لحود. قرارها النهائي يتوقف على مدى استعداد حزب الله وحركة " أمل " للسير في هذا الطريق والضمانات التي يطلبانها بإزاء أمرين: المحافظة على سلاح المقاومة وحمايتها، والتعاون الوثيق مع سوريا في إطار أحكام اتفاق الطائف والاتفاقات السياسية والاقتصادية والدفاعية التي انبثقت منه.
المهم أن بهية الحريري فتحت بخطابها الرصين المتوازن، كما فعل قبلها السيد حسن نصر الله بخطابه الوطني الحازم والمنفتح على الحوار، بابًا واسعًا للبحث الجدي في إيجاد مخرج لائق من الأزمة المستفحلة ومن التدخل الأميركي المتفاقم الذي يقود إلى تدويلها، بمعنى وضع لبنان تحت الوصاية الدولية..
من أجل تفادي خطر التدويل من جهة وخطر الانهيار النقدي من جهة أخرى، يقتضي أن يسارع الأطراف اللبنانيون جميعًا، من دون مشاركة أية قوة خارجية، إلى صوغ تسوية تاريخية للخروج من الأزمة الوطنية وإعادة تأسيس الجمهورية. في هذا الإطار، ثمة توافق بين الجميع على أن اتفاق الطائف هو الأساس والقاسم المشترك بالإضافة الى إصلاحات أخرى تستوجبها دروس تجربـة تطبيقه في خلال المرحلة السابقة. وعليه، فإن المحك الآن هو النهج والآليات التي يقتضي التوافق عليها لوضع البلد على سكة التسوية التاريخية المنشودة.
لعل المدخل إلى التنفيذ هو في التوافق على حكومة اتحاد وطني للإنقاذ والإصلاح تتبنى مطالب المعارضة الثلاثة – الانسحاب العسكري والمخابراتي السوري الكامل والشامل، وإزاحة قادة الأجهزة الأمنية، ولجنة تحقيق دولية مع ضوابط صارمة لها للحؤول دون تسخيرها لتسويق الوصاية الدولية – كما تتبنى مطلب حزب الله وحركة " أمل " وسائر الأحزاب والقوى الوطنية والديمقراطية المتعلق باعتماد نظام التمثيل النسبي في الانتخابات القادمة، على أن تجري في خريف العام الحالي أو ربيع العام المقبل.
إن قيام حكومة اتحاد وطني للإنقاذ والإصلاح برئاسة الدكتور سليم الحص لوضع المناهج والآليات اللازمة للخروج من الأزمة الراهنة ووضع قواعد المصالحة الوطنية وحماية المقاومة والإشراف تاليًا على الانتخابات النيابية يؤدي إلى إنتاج مجلس نيابي يكون بمثابة جمعية تأسيسية. هذا المجلس قادر على إنجاب حكومة وطنية جامعة برئاسة السيدة بهية الحريري تتولى إعادة تأسيس الجمهورية وتوطيد الاستقلال الوطني بتطبيق جميع بنود اتفاق الطائف، لا سيما ما أصبح منها أحكامًا في الدستور، وسائر الإصلاحات المتفق عليها.
هل كثير على اللبنانيين، مسؤولين ومواطنين، اعتماد هذا النهج الوطني للخروج من الأزمة المستفحلة؟