قبل نهاية العام 2004 نشرت وول ستريت جورنال نتائج أول استطلاع عالمي للإيمان والإلحاد، ورغم أن الاستطلاع كشف عن حقائق شديدة الأهمية لفهم الدور المتنامي الذي يلعبه الدين في الساسة الدولية إلا أن مجرد إجرائه يظل تحولًا تاريخيًّا جديرًا بالتوقف عنده، فمنذ الثورة الفرنسية والقسم الأكبر من النخب السياسية والثقافية في العالم يعتبر الفصل بين الدين والسياسة حقيقة من الحقائق المستقرة التي لم تعد تقبل الجدل. أوروبا الكافرة
"أوربا الكافرة" وصف قاس أطلقه اليمين الدين الأمريكي على حال الدين في الواقع السياسي والثقافي الأوروبي، وهو وصف يلخص المسافة الفاصلة – التي ما زالت تتسع باطراد – بين نموذجين سياسيين بدا لعقود طويلة أنهما متماثلان. الاستطلاع الذي نشرت الجريدة نتائجه في طبعتها الأوروبية أجرته مؤسسة "جي. أف. كا." وترافق نشره مع عيد الميلاد وسبق افتتاح مفاوضات انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي. وقد أجري الاستطلاع في 21 دولة في أوروبا الغربية والشرقية – عدا فرنسا – بالإضافة إلى تركيا وروسيا والولايات المتحدة وهو الأول من نوعه.
ومن بين النتائج التي كشف عنها أن 25 % من مواطني أوروبا الغربية يعلنون أنهم لا يؤمنون بالله ويصفون أنفسهم بأنهم "ملحدون" وهي النسبة الأعلى في العالم مقارنة مع:
15 % من الملحدين في روسيا.
12 % في أوروبا الشرقية.
8 % في الولايات المتحدة.
1 % في تركيا.
وتأتي الجمهورية التشيكية في طليعة البلدان الملحدة (49%) لتذكرنا بتحذير رئيسها السابق المفكر المعروف فاكسلاف هافل "إن الحضارة الأوروبية هي أول حضارة في التاريخ الإنساني تقوم على الإلحاد". وتأتي بعد تشيكيا هولندا (41%) ثم الدانمارك (37%) ثم بلجيكا (36%) ثم السويد (30%).
ونتوقف عند ألمانيا التي يشير الاستطلاع إلى أن نسبة الملحدين بين سكانها تبلغ (37%)، فرغم أن هذا الاستطلاع الشامل العابر لحدود الدولة هو الأول من نوعه فإن ظاهرة الإلحاد شغلت المجتمع الألماني قبل سنوات، وتشير إحصاءات سابقة أجريت في تسعينات القرن الماضي إلى أن 47% من الألمان يعتبرون أنفسهم لا دينيين و9% يعتبرون أنفسهم ملحدين وترتفع النسبة في ألمانيا الشرقية إلى 18%. ومن الواضح أن درجة من التداخل بين حدود المصطلحين تؤدي لتناقض ظاهر وإن بقيت العبرة الواضحة أن حالة من قلة الاكتراث بالدين متفشية وتظهر في أشكال متفاوتة ويتم التعبير عنها بمصطلحات متقاربة. والأكثر مدعاة للدهشة في هذه الإحصاءات أن من يعتبرون أنفسهم مؤمنين يذهب 9% منهم فقط قداس الأحد، كما أن 31% ممن اعتبروا أنفسهم بروتستنت لا يؤمنون بالإله الذي تدعو الكنيسة للإيمان به بل يؤمنون بـ "قوة عليا"!!!
وفي مقال عنوانه "وداع الله" عن الوضع الديني في ألمانيا نشرته دير شبيجل (15 يونيو 1992) وصفت ألمانيا بأنها تحولت إلى "بلد كافر"!
الإيمان "القومي"
في المقابل تأتي في طليعة المجتمعات "المؤمنة" الدول التي يختلط فيها الدين بهويتها القومية، ففي التشكيل الحضاري الأرثوذكسي توجد النسبة الأعلى في رومانيا حيث يعتبر 96% من السكان أنفسهم مؤمنين ثم اليونان وتبلغ النسبة فيها 92%. أما في التشكيل الحضاري الكاثوليكي فتبلغ نسبة من يعتبرون أنفسهم مؤمنين 90% في بولونيا و86% في إيطاليا. أما في تركيا فإن 95% من الأتراك يعتبرون أنفسهم مسلمين بينهم 72% يمارسون الشعائر، وعلى خلفية مفاوضات انضمامها للاتحاد الأوروبي فإن مقارنة هذا الرقم بالمتوسط العام في أوروبا يشير إلى فارق ضخم فنسبة من يعتبرون أنفسهم مؤمنين في القارة يبلغ 68% مقابل 80% في أوروبا الشرقية أما من يمارسون الطقوس فتبلغ نسبتهم 24% مقابل 37% في أوروبا الشرقية. وتبلغ نسبة المؤمنين في روسيا 65% بينما من يمارسون الشعائر لا تتجاوز نسبتهم 4%.
وفي منتصف المسافة بين النقيضين الأوروبي والتركي تأتي الولايات المتحدة حيث تبلغ نسبة من يعتبرون أنفسهم مؤمنين 75% وتبلغ نسبة من يمارسون الشعائر 43%، وحسب إحصاء سبق الاستطلاع المشار إليه فإن 86 % من الأمريكيين يعتقدون في الآخرة والله.
وبطبيعة الحال تحتاج هذه الأرقام إلى إخضاعها لعملية تحليلية لقراءة دلالاتها المختلفة ولاستكشاف الكيفية والآليات التي يتطور بها الموقف من الدين في التشكيلات الحضارية المختلفة والثقافات المختلفة وكذلك درجة الاهتمام بالممارسة الدينية في مختلف المجتمعات، فمن المؤكد أن عوامل عديدة كالثقافة والانتماء المذهبي والبنية السياسية للدولة وتتدخل في تحديد مثل هذه المواقف.