في تدخلها المتزايد في أزمة لبنان المستفحلة ، تركّز الولايات المتحدة على ثلاثة أغراض استراتيجية : انسحاب كامل وشامل للقوات العسكرية والمخابراتية السورية ، وتجريد المقاومة اللبنانية ( حزب الله ) من السلاح ، وتجويف انتماء لبنان إلى محيطه العربي.
أفلحت أمريكا أو كادت في تحقيق الغرض الأول ، وهي تسعى إلى استكماله بإلزام لبنان وسوريا بالتخلي عن بند في اتفاق الطائف يولي البلدين حق استبقاء قوات سورية في نقاط محددة داخل لبنان ( منطقة البقاع ) يتم تحديد حجمها ومدة تواجدها وعلاقتها مع سلطات الدولة اللبنانية في أماكن تموضعها بموجب اتفاق خاص. لتحقيق الغرض الثاني ، تصرّ أمريكا على وصف حزب الله بأنه تنظيم إرهابي ، وقام بأنشطة إرهابية في الماضي ، ويعمل على تقويض عملية السلام بين إسرائيل والفلسطينيين . كما " تأمل أمريكا في أن يثبت حزب الله انه ليس إرهابيًّا من خلال تخليه عن سلاحه وتوقفه عن تهديد السلام ".
هذا الكلام قاله الرئيس جورج بوش لمحاوره اللبناني البطريرك مار نصر الله بطرس صفير في خلال لقائه معه مؤخرًا. وهو يأمل في إقناع الزعيم الروحي للموارنة ، كما سائر القادة اللبنانيين ، بأن لا مانع لدى أمريكا في ترك مسألة نزع سلاح حزب الله لحكومة لبنانية تؤلف بعد الانتخابات النيابية . كما أوضح أنه في هذه الحال لن تمانع واشنطن في مشاركة الحزب في أية حكومة جديدة . ولعله صارح البطريرك أيضًا بأن امتناع حكومة لبنان عن نزع سلاح الحزب قد يؤدي إلى تدخل عسكري إسرائيلي وبالتالي إلى تدخل مجلس الأمن لمعالجة النزاع بنشر قوات دولية في مناطق الجنوب والبقاع وضواحي العاصمة بيروت .
إذا ما تمكّنت أمريكا من تحقيق الغرضين الأول والثاني ، تكون قد نجحت مبدئيًّا في مباشرة تحقيق الغرض الثالث وهو تجويف انتماء لبنان إلى محيطه العربي بتعطيل التزامه بواجباته القومية إزاء حقوق العرب السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، وإخراجه تاليًا من دائرة الصراع العربي – الإسرائيلي .
لماذا تسعى أمريكا إلى تحقيق الأغراض الثلاثة ؟ لأن المقاومة اللبنانية أضحت قوة رادعة ومؤذية لإسرائيل في حال اعتدائها على لبنان أو تكريس استيلائها على منطقة شبعا الجنوبية المحتلة حيث يكمن مخزون هائل من المياه الجوفية . وليس أدل على ذلك من أن إسرائيل امتنعت ، بعد اضطـرارها إلى سحب قواتها المحتلة من الجنوب اللبناني العام 2000 ، عن القيام بهجومـات برية ، بالمشاة أو بالمدرعات ، على المناطق الحدودية اللبنانية . كل ذلك مخافة أن ترد المقاومة اللبنانية بقصف صاروخيٍّ أو بعمليات فدائية تلحق بالغ الأذى بالمستعمرات الصهيونية في منطقة الجليل المحتل.
إلى ذلك ، فإن المقاومة باتت ورقة سياسية ثمينة بيد حكومتي لبنان وسوريا تمكنهما من استخدامها في أية مفاوضات قادمة مع إسرائيل . من دونها ، لا يبقى لهما أية أداة ضغط ملائمة لإكراه إسرائيل على إخلاء منطقة شبعا والتخلي عن مستعمراتها في الجولان السوري المحتل في إطار العودة إلى اتفاقيات الهدنة للعام 1949 أو في إطار تسوية سلمية متوازنة .
فوق ذلك ، يؤلم إسرائيل أن تبقى المقاومة اللبنانية ونصرها الرائع على " جيشها الذي لا يقهر " العام 2000 شاهداً على القدرات العربية في حال تفعيل الإرادة السياسية والقتالية وقدوةً لافتة للشعوب العربية الرازحة تحت احتلال أجنبي أو المهددة بحرب أو عدوان .
كيف يمكن الحؤول دون تحقيق أغراض أمريكا وإسرائيل في تجريد لبنان من السلاح والقوة الرادعــة والأوراق التفاوضية والانتماء العربي والوفاء بموجباته القومية ، من دون الإسـاءة إلى الجهود السياسية المبذولة من أجل إخراجه من أزمته الوطنية المزمنة ؟
ثمة توافق أو شبه إجماع بين الأطراف اللبنانيين المتصارعين على حماية المقاومة ورفض تجريد حزب الله من السلاح كونه ليس ميليشيا بالمعنى المقصود في اتفاق الطائف . هذا التوافق يمكن تدعيمه سياسيا إزاء القوى السياسية المتنافسة في الداخل بجعل المقاومة جزءًا من المنظومة الدفاعية اللبنانية من طريق ترتيب يحدد أهدافها الاستراتيجية والتكتيكية وعلاقتها بالسلطة اللبنانية ووجوه نشاطها وذلك في إطار المجلس الوطني للدفاع . إن من شأن هذا الترتيب السياسي والإداري المقترح تشريع المقاومة ووضعها تحت مظلة الشرعية اللبنانية وفي حمى حكم القانون والسيادة الوطنيين . وغني عن البيان أنه يقتضي ، لضمان شرعية هذا الترتيب وصدقيته والتزام جميع القوى السياسية احترامه وتنفيذه ، أن يكون بندًا ميثاقيًّا يضاف إلى اتفاق الطائف أو أن يكون ميثاقًا قائمًا بذاته .
ستعترض أمريكا ( وإسرائيل ) ، بطبيعة الحال ، على هذا التشريع للمقاومة اللبنانية الذي يبقيها قوةً رادعة وورقةً تفاوضية بيد لبنان. لكن إجماع اللبنانيين أو توافقهم الواسع على ضرورة حمايتها وفائدتها الاستراتيجية والسياسية للبلد واقتران ذلك كله بقرار إجماعي من مؤتمر القمة العربية ، عاجلًا أو آجلًا ، من شأن ذلك كله تعطيل مفاعيل الممـانعة الأمريكية وتجاوز تهديدات إسرائيل وردّ اعتداءاتها المحتملة .
تقتضي الإشارة أخيرًا وليس آخرًا إلى أن حماية المقاومة ليست قضية وطنية تتعلق بالشأن الدفاعي وبتوفير أدوات الردع اللازمة ضد إسرائيل والأوراق القوية اللازمة في المفاوضات المرتقبة وحسب بل هي قضية سياسية داخلية أيضًا تتعلق بحقوق شريحة واسعة من اللبنانيين وتطلعاتهم المشروعة . من هنا تنبع ضرورة مقاربتها ومعالجتها في إطار وطني ومن ضمن إيجاد الأسس والقواعد والترتيبات اللازمة لاجتراح تسوية تاريخية للأزمة الوطنية المزمنة ، تكون من صنع اللبنانيين أنفسهم ، بعيدًا عن تدخلات القوى الأجنبية الطامعة ، وبما يؤمّن تخليص لبنان من الانفجارات السياسية والأمنية شبه الدورية التي أخذت بخناقه منذ استقلاله العام 1943.