النقلة النوعية في المسار السياسي الجزائري مع الجمهورية الفرنسية عدو الأمس، الذي فصل فيه الرئيس الأسبق المرحوم هواري بومدين، بقوله بيننا وبين فرنسا جبال من الجماجم، وأنهار من الدماء، بدأها بشكل غير مسبوق الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد بكسره للحاجز النفسي الذي سبق و أقامه أسلافه السياسيون، والرعيل الأول في الحكم بالجزائر، عندما اختار أن يزور العاصمة باريس سنة 1982 بشكل مفاجئ، ودون ترتيبات سياسة مسبقة، وقد فسرت هذه الزيارة فيما بعد على أنها زيارة تدخل في المسعى العام الذي أخذته السلطة، وهو المسعى الجاحد لكل ما بنته الحقبة البومدينية، سواء على مستوى العلاقات مع التاريخ أو مع النهج السياسي،و الاقتصادي لقد تبنى من جَاءوا بعد الراحل هواري بومدين مباشرة سياسة مفادها ليس التنكر للماضي فقط ، بمد جسور الصداقة،والتعاون مع الدولة التي كانت بالأمس القريب تبيد الشعب الجزائري بالمئات في المداشر والقرى، وتنكل بالآلاف في المعتقلات، بل لجأوا إلى تمزيق تقريبا الورقة التاريخية، التي تحوي جرائم المحتل، وهي الورقة التي عاهد الرئيس هواري بومدين نفسه على أن لا يطويها، ويحفظها كمرآة لماض مؤلم، عاشته الجزائر لأزيد من قرن وكوثيقة رسمية يطالب بها فرنسا أمام التاريخ الذي قال فيه الفيلسوف الألماني فيخته"ّإن التاريخ كالإنجيل يكتب ويقرأ ويدرس بنفس التقديس والاجلال".وكما عبر أيضا المرحوم مولود قاسم نايت بلقاسم "فالتاريخ مرآة للماضي ، ومنهاج لاستخلاص التجارب ،ولكن أيضا، وبالدرجة الأولى: وسيلة لغرس حب الوطن لدى الشباب ، فهو الإسمنت الروحي – إذ فيه الدين أيضا ، والإيديولوجي، والسياسي، لتقوية وحدة الأمة ، وتعزيز تماسكها ، وتوطيد أركانها ، وتعميق الوعي بتلك الوحدة ، وإذكاء الإحساس بذلك التماسك، مما يعطيها في الداخل تصورا واحدا للحياة ، ويجندها ويبرزها للخارج كرجل واجد ، لتحقيق ذلك التصور بإرادة فولاذية ، وعزم صارم، وتصميم جماعي موحد . فالتاريخ ، بحفظه لكل حلْقة من حلقات سلسلة الأجداد والأحفاد، يؤكد عناصر الشخصية الأصيلة ، المتفتحة في الوقت نفسه على ضرورات العصر بما لا يضر أصالتها ، ويعطي الأمة وجها بارز السمات ، واضح القسمات ، ويضمن لها وجودا متميزا يكون عنوانا لها ، وبطاقة إنيتها أو تعريفها بين الأمم ، ككل قائم بذاته ، وكجزء من كل أكبر منه ويشمله مغربي، عربي، إسلامي، بل إنساني عالمي "
وعندما اختارت السلطة القائمة آنذاك التموقع داخل مربع هجر الماضي، والتنكر لكل تضحيات الشعب الجزائري الذي قدم دمه قربانا لاستقلاله، واستقلال الأرض انتهى المطاف بالجميع نحو فقدان للذاكرة التاريخية، واعتبار أن ما حدث إبّان قرن ونصف هو مجرد نزهة قامت بها دولة اسمها فرنسا، كانت تبحث لنفسها ضمن الخارطة الاستعمارية حسب اتفاقية سايكس –بيكو، عن موقع من أجل التجذر السرمدي ولما شق عليها تثبيت أركانها داخل المجتمع الجزائري الذي طاردها بقضه وقضيضه، ونفسه ونفيسه، عزمت على الرحيل من دون أن يكون هناك حساب، أو محاسبة، أو حتى تلميح بذلك. وقد كانت الفترة البومدينية تنتظر الفرصة السانحة لفتح السجل التاريخي مع فرنسا، من أجل وضع كل ما تعلق بالتاريخ في مكانه اللائق به، ولكن عندما تحين الفرصة المواتية، وتستعيد الجزائر أنفاسها، لأن إشكالية الإشكاليات كانت تتمثل في إلغاء الآثار الكبرى لكل ما دمرته الفترة الكولونيالية، وتوطيد بناء الدولة المستقلة،و تعويض الشعب عن سنين الحرمان، والجوع.
لا نستطيع أن نقول بأن فرنسا الرسمية قد استطاعت أن تجد لنفسها مخرجا من طاحونة حساب التاريخ، ومراجعة الذاكرة الكولونيالية، على رغم من أن اقتصاد الجزائر حاليا هو تحت رحمة المؤسسات الفرنسية، فما يقارب ثمانين بالمائة من ديون الجزائر هي تحت إشراف نادي باريس، وتحت إشراف اللوبي المالي الفرنسي على وجه محدد. كما لا نؤكد أيضا على أن فرنسا هي إلى الآن منتصرة بما أنها استطاعت أن تمتلك كل الجزائر كزبون مبيعاتها، وكمتعامل اقتصادي من الطراز الرفيع. وكون الفرد الجزائري لا يزال متعبا جرَّاء ما كابده في العشرية الأخيرة، من سياسة الكل الأمني التي شاركت فرنسا في صياغتها سواء من بعيد أو من قريب. وإنما نستطيع التأكيد على أن فرنسا الرسمية تمكنت من الانفلات من العقاب ليس المادي فحسب بل التاريخي تحديدا ، بتحويل استقلال الجزائر الغالي إلى مجرد واجهة، وتحويل الانتصار إلى مجرد احتفال لا يستطيع أن يحرك اللواعج، ويهز المشاعر، ليفتح آفاق المستقبل الواعد الذي كان يحلم به الشهداء، وتعاهدت عليه الأمة.
الذي يلزم النظام الجزائري اليوم بعد هذا التحول في العلاقات الدولية، وهذا التجاذب العالمي نحو مناخ اقتصادي سمته الأولى التكتل، أن يراجع علاقته مع الجمهورية الفرنسية، من باب أن مسوغات البقاء تحت رحمة ما تجود به فرنسا على الجزائر من تعاملات، بالإمكان أن تستغني عنها إذا ما أرادت، فأكثر من دولة أوروبية يهمها التعامل مع الجزائر، وليس فقط فرنسا، إضافة إلى أنه من مصلحة الجزائر أن تخرج من تحت القبضة الفرنسية، حتى تخلق لنفسها جوها المناسب الذي تستطيع وفقه التحرر اقتصاديا، وكذلك سياسيا.
و بعدها تكون المطالبة التاريخية بفتح سجل الديون الذي سيكون حتما باعثا هو أيضا من أجل التحرر نهائيا من عقدة المديونية، وعقدة السيطرة الاقتصادية، وهي مشروعة دوليا، وقانونا ولا تسقط أبدا بالتقادم، لو أن الرئيس عبد العزيز بوتفليقة وهو الديبلوماسي المحنك أخذها مأخذ الجد، وحاول أن يجعلها ورقة ضغط قبالة الجانب الفرنسي الذي من غير شك سوف يذعن لذلك، وسيحترم هذا القرار، ولو على مضض.لأن أي علاقة استراتيجية يجب أن تكون مبنية على أمر واحد هو الاحترام المتبادل، وليس الخديعة والمكر وشعور الآخر بالتعالي، وعقدة الكولونيالية القديمة. وقد قالها جهوريا الرئيس بوتفليقة مخاطبا فرنسا قائلا:"على فرنسا أن تنسى بأن الجزائر جنتها".
وربما تعد التغيّرات الحاصلة على المستوى العالمي اليوم فرصة للجزائر لتطالب محتل الأمس فرنسا، التي تظن بأن الجزائر لا تزال جنتها حسب تعبير رئيس الجمهورية، بالتعويض عن كل يوم عاشته في الجزائر من نهب الأرض، وهتك العرض، ودعوة القذافي للسلطة الجزائرية بأن تقوم بواجب المطالبة بالتعويض لا تستحق صراحة سوى الاحترام، والتقدير، وهي نابعة من ضمير عربي أصيل، عايش مثل هذه الحالات، فاليهود ليسوا بأحسن حال من الجزائريين، عندما طالبوا الدولة الألمانية بالتعويض، عن جرائم النازية الهتلرية، والسويسريون أيضا عندما طالبوا فرنسا نفسها بدين يعد بسيطا ،وهينا يعود أصله إلى أكثر من قرن ونصف.
إن السلطة الجزائرية مجبرة على الوقوف أمام مرآة التاريخ واسترداد حق الشعب المسلوب قهرا وجورا، كما هي مجبرة على الرد على افتراءات المسؤولين الفرنسيين الذي لا يريدون مجرد الاعتراف بجرائمهم، كما حدث مع السفير الفرنسي الذي زار سطيف مدينة المجازر الفرنسية في حق الشعب الجزائري، إذ صرح بأن مجازر 08 ماي 1945 سببها مناوشة بين عائلتين، ضاربا عرض الحائط بكل الحقائق التاريخية، وبكل البروتوكولات السياسية.متناسيا في نفس الوقت أن مجازر سطيف وخراطة وقالمة هي وصمة عار في جبين الجمهورية الخامسة لفرنسا التي كذبت على نفسها وغدرت بالشعب الجزائري، شأن كل مسئوليها اليوم الذين لا يزالون يكذبون على التاريخ، ويزورون الحقائق. ويظنون بأن مسألة الوقوف على الحقائق التاريخية قد تجاوزها الزمن، وأن تحكم فرنسا في قوت الجزائريين يغنيها عن كل مساءلة أو محاسبة. فمتى يعرف مسؤولونا بأن العلاقات الاستراتيجية لا تبنى أبدا على الكذب التاريخي، أو على التغاضي عن دين باهظ الفاتورة؟

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية