يبدو أن مشروع قانون المحروقات لم يحرك سواكن الأغلبية المشرعة، من الأحزاب المنتخبة برلمانيًّا، ولم يثر فيهم حتى مشاعر المناقشة، من أجل الوقوف على ما يمكن أن ينطوي عليه هذا القانون من مزايا، كم من تداعيات على مستقبل الاقتصاد الوطني ومستقبل الأجيال بعد ذلك، فكل ما في الأمر أن القانون الذي هاجت وماجت لأجله لويزة حنون ،قد أخذ مقصده،وحاز على الشرعية الكاملة هذه المرة وبتفويض من أمناء الشعب، ونوابه من أجل أن يكون ضمن الحلقة الطويلة من حلقات مسلسل التنازلات القسرية لصالح التنمية المستدامة، هذه التنازلات التي يعترف الرسميون بأنفسهم أنها لم تكن خيارهم المفضل، ولا رسمهم السلطوي، وإنما وفدت على حين غرة مع موسم الفترة الانتقالية بعد سقوط المعسكر الاشتراكي، وحيازة الرأسمالية العالمية على مصدر القرار. ولم يكن بوسع أحد على وجه الأرض أن يرفع رأسه ويتجرأ على كل قرارات السلطة الرأسمالية المسيطرة على العالم،التي تهتك كل عرض اقتصادي يحاول مجرد أن يقف متطاولًا رافضًا الانصياع، أو محاولًا حتى الانتقاد، لأن الخيار الاقتصادي كما هو الخيار السياسي قد تم الحسم فيه ولا مجال للمناقشة، أو المناورة ، أو إبداء حتى حسن، أو سوء النية حياله.وربما هذا ما أراد النظام الرسمي عندنا في الجزائر إيهامنا به، وإحالتنا بالتالي على منطق التسليم، والخضوع التام، وتعطيل كل ما من شأنه أن يكون لنا تميزًا يذكر كأمة لها تاريخها ولها قيمها، ولها طموحاتها، ولها أفكارها، ولها أيضًا حلولها لكل مشاكلها ليس الاقتصادية فحسب بل لكل مناحي حياتها المتعددة.
إن السلطة في الجزائر لم تترك لهذا الشعب حيّزًا من الحرية من خلاله يمكن أن يكوّن لنفسه الحل الفعلي،إذا لم يستطع أن يخلقه خلقًا، لمقتضى مشاكله الجمة، وليس قانون المحروقات فقط الذي اغتاضت لأجله لويزة حنون هو القانون الوحيد الذي لم يمرر على غربال المناقشة والتمحيص، وفرز حيثياته، وما مدى جدواه على الاقتصاد الوطني، بل قرارات مصيرية عادت على الجزائر بالوبال والخراب، دبرت بليل من غير علم الشعب، ونوابه في المخابر المظلمة.
كان بإمكان النظام الرسمي أن يحيل قانون المحروقات، بحكم أن قطاع المحروقات في الجزائر هو الشريان الوحيد للاقتصاد الوطني والذي منه تقتات الخزينة الوطنية، وبدولاراته الوزراء المبجلون يأخذون مرتباتهم، وبفضله الشعب يأكل ما يستورد من مواد غذائية استهلاكية، على استفتاء شعبي كما حصل مع قانون الوئام المدني، وكما تريد أن يكون مع مسألة العفو الشامل.أما وأن يلف بكل ضبابية، قد لا يعلم محتواه الحقيقي حتى النواب أنفسهم فضلًا عن بسطاء الشعب، فهذا الذي لا يكون مقبولًا بالمرة، وبخاصة وأن النظام الرسمي يتبجح متفاخرًا أنه استطاع ترسيخ مبدأ الديمقراطية في الحكم، والشفافية في التفسير.
وقد تكثر التفسيرات وتكثر الشروحات من غير أن تعرف الحقيقة المتخفية.فالبرلمانيون ينظرون إلى القانون من زاوية حزبية، وقد تبدو زاوية فيها كل الصواب، والحكومة تنظر إليه هي الأخرى من زاوية وقد تبدو فيها أيضا كل الصواب،لكن سوف يبقى ذلك التعتيم الذي يحيط دائما بكل المشاريع التي يطرحها النظام الرسمي، ويتلقفها المنمقون،الراعون لها منذ أن تكون مجرد فكرة في رأس الحاكم، إلى أن تمرر على المصفاة، وأغلبيتهم هم النواب الذين يعطون الشرعية لكل هذه الترسانة القانونية، ولو أن البرلمانيين حاولوا فقط بما أنهم يمثلون الشعب كما يدعون أن يعطلوا القوانين حتى تأخذ هذه القوانين وقتها اللازم في الشرح، وفي الفهم لأكبر شريحة من الشعب، لأن الغالبية الكبيرة من الشعب الجزائري ليست لها المقدرة التامة على الفهم السريع والهضم التلقائي لمجمل ما يطرح من قوانين، لكان هؤلاء البرلمانيون بعيدًا عن كل شبهة، ومقامهم سيظل رفيعًا أمام هذا الشعب الذي يتحدثون باسمه أو أمام الله غدًا يوم القيامة يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم، وأدّى الأمانة بكل إخلاص ووفاء.
لا يمكن التسليم بأن الأخت لويزة حنون إلى اليوم لا تدري طبيعة التركيبة الحقيقية للنظام الجزائري، ومنطلقاته السياسية الاقتصادية منذ مدة، وإلى أين يريد أن يصل من محطة، كما لا يمكن التسليم بأن البرلمانيين جميعًا كما قالت عنهم لويزة حنون غير معنيين بما سوف يحدث لهم لو تمردوا على ما تقوله السلطة، وما تطلب منهم الحكومة. فالجميع سلطة وبرلمانًا يفهم أن خياراته مرتبطة بخيارات الآخر كما هي خيارات هذا القانون للمحروقات وارتباطه العضوي بتقدم الاقتصاد الوطني، فالسلطة خيارها إرضاء المؤسسات المالية العالمية، حتى لا يحدث لها كما حدث للبرازيل التي وجدت نفسها غير قادرة على استيفاء شروط دفع مستحقات خدمة الديون التي أثقلت كاهلها، والبرلمانيون خيارهم مداراة الحكومة، ويداومون على إمّعتهم من أجل مكتسباتهم الآنية، ويبقى الشعب بين البينين يصارع قدره المقدور في أن وجد نفسه تحت قبضة من لا يملك حلًّا لمشاكله الحياتية المستعصية، وتحت رحمة من لا يملك سلطة القرار في أن يرفع صوته جهوريًّا أمام الواقع المر المفروض عنوة من جهات معلومة، هي المؤسسات المالية العالمية التي تتحكم في رقاب اقتصاديات الدول المستضعفة كشف عنها المفكر الكبير رجاء غار ودي في كتاب له معنون بـ"الولايات المتحدة طليعة الانحطاط"، هذا الكتاب الذي يكشف بطريقة علمية عن ما تريد الولايات المتحدة الأمريكية الوصول إليه،عن طريق استعمال نفوذها على المؤسسات المالية المتواجدة على أرضها، وكيف أنها في نفس الوقت، تبتز الدول الفقيرة سياسيا،التي لا تملك حلولا ناجعة ذاتيا،وقد دخلت الجزائر في رواق اللعبة فانطبق عليها ما كان ينطبق على الجميع، يقول رجاء غار ودي" لقد أصبح مقبولًا، وصول حكام منتخبين إلى السلطة، مع استبدال الإرهاب الحكومي بالفساد. وهكذا شهدنا ارتقاء قادة منتخبين كراسي الحكم مثل كولور في البرازيل، ومنعم في الأرجنتين. وبعد استبدال الجنرالات الخونة، طلب إلى الحكام الجدد مهمة واحدة هي أن يقوموا بتسديد القروض وفوائدها التي عقدها الطغاة العسكريون ونسيان جرائمهم .
واستطاعت سيطرة صندوق النقد الدولي أن تتجذر بدون مخاطر في هذه البلاد التي قيدتها الديون ، وأصبح اقتصادها في أيدي مؤسسات أجنبية .ويستطيع صندوق النقد الدولي أن يفرض دون عواقب نظام " تنمية أكثر ملاءمة للمتروبول العالمي "، ليس على العالم الثالث فقط ، بل على العالم كله : ويتمثل هذا التوجه بتنمية زراعات أحادية، ومنتجات أحادية، والتراجع عن الزراعات الحيوية والحرف الوطنية التي تؤمن للمواطنين قوت يومهم، وتتحقق بذاك التبعية، والاستغلال المتزايد لليد العاملة، وتفاقم الديون، بسبب تضخم الاستيراد .
والنتيجة الإجمالية، نتيجة قاطعة: فمنذ بداية الثمانينات، انخفض دخل الفرد في أمريكا اللاتينية 15 % وفي أفريقيا 20 % .
ويحمل نظام الهيمنة هذا اسمًا شائعًا هو " خطة التصحيح البنيوي " وبموجبها لا تمنح القروض والمساعدات إلا في ظل شروط سياسية قاسية. وعندما تطبق برامج صندوق النقد الدولي بحرفيتها في بلد ما، تتمتع حكومته حينئذ بالمعاملة المتميزة من جانب الولايات المتحدة واتباعها الأوروبيين .
وتتألف برامج " التصحيح البنيوي " غالبًا من العناصر التالية : تخفيض العملة " بغرض تشجيع التصدير، وإعاقة الاستيراد " ، وتخفيض " تنيني " في الإنفاق العام، وبشكل خاص في الميدان الاجتماعي، أي في اعتمادات التعليم والصحة والإسكان، وإلغاء دعم المواد الاستهلاكية بما فيها المواد الغذائية ، وخصخصة مؤسسات القطاع العام، أو زيادة رسوم " الكهرباء، الماء ، النقل " ، وإلغاء السيطرة على الأسعار، و" تنظيم الاحتياجات " ، وبالتالي خفض الاستهلاك ، يدعم ذلك تجميد سقوف الرواتب، والحد من القروض للمواطنين، وزيادة الودائع ومعدلات الفائدة، وكل ذلك بهدف تخفيض آثار التضخم ".
ألم يطبق النظام الرسمي بكل حرفية هذه الخطوات، ولا يزال يتتبع خطوات الدور الأمريكي على وجه التخصيص، وفرنسا على وجه عام، لأن الخطة الاقتصادية مقسمة بين نفوذ ين، نفوذ أمريكي ويكون داخل الصحراء البترولية، ونفوذ فرنسي ويكون شماليًّا مع فتح كل الحدود للسلع التي تمر عليها حتمًا قبل أن تدخل الجزائر، أليس هذا استعمارًا جديدًا، نريد فتوى صريحة من النظام الرسمي حول مشروعيته!

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية