تواجه الشعوب في حركتها تحديات متعددة ، أبرزها خمسة :
اولا : العولمة بما هي سعي أميركا ودول الغرب الكبرى وشركاتها الكونية إلــى
إعادة تنميط العالم وفق معاييرها الحضارية ومفاهيمها السياسية ومراميها الاقتصادية وقيمها العقيدية . ومع إنهيار الاتحاد السوفياتي ، بزغت الوحدانية القطبية ممثلةً بالولايات المتحدة الساعية عبر تفوقها العسكري والتكنولوجي إلى تحقيق أغراض أربعة : (أ) الهيمنة الشاملة وإعادة تشكيل بلدان الجنوب ، حيث الموارد الطبيعية والأسواق الإستهلاكية ، سياسيا وثقافيا . ( ب) السيطرة على النفط ، إنتاجاً وتسعيراً وتصديراً ، للتحكّم بإقتصادات الدول المنافسـة لها. (جـ ) حماية إسرائيل . (د) محاربة " الإرهاب " ، بما هو في الواقع مقاومة متعددة العقائد والمناهج والآليات ضد الإحتلال الاميركي والصهيوني . غير ان أميركـا العملاقة تكنولوجيا وعسكريا مثقلة ومرهقة بمديونية عامـة ( تشمل مجمل ديون مؤسسات القطاعين العام والخاص ) تربو على 40 تريليون دولار ، منها 7,6 تريليون دولار دين الحكومة الفدرالية وحدها ، و27 تريليون دولار ، أي نسبة66% من مجمل هذه المديونيـة العامة ، تحققت منذ 1990 ، أي منذ وصول آل بوش الى سدة الرئاسة ، أنظــر : Michael Hodges, Grandfathers Economic Report, 2005 .
ثانيا : العنف بما هو إرهاب الدولة ، وإرهاب الأفراد والجماعات من جهة، ومقاومة
الشعوب للإحتلال والتسلط والقمع من جهة اخرى . أميركا وإسرائيل تحاولان توصيف كل مقاومة بأنها إرهاب . تتجاهلان الجذور والأسباب وتركّزان على المظاهر والنتائج ، بل تعتبران الإسلام بحد ذاته تربة خصبة للإرهاب وصانـع إرهابيين . تشنّان حرباً إستباقية على كل ما ومن تعتبرانه إرهاباً وإرهابيين . هكذا أصبح العنف بشقه المشروع ( المقاومة ) وشقه غير المشـــــروع ( الإرهاب ) ظاهرة عالمية بإمتياز.
ثالثا : السلاح النووي بما هو أقوى أسلحة الدمار الشامل بات في أيدي دول متعددة ،
كبرى ومتوسطة . أكيد أن " إهتمام الإرهابيين القوي بامتلاك أسلحة كيميائية وبيولوجية وإشعاعية ونووية يزيد من مخاطر وقوع هجــوم إرهابي كبير " ( مجلس المخابرات القومي الامريكي ، مشروع العام 2020 ، تقرير صدر في 2005/1/13) . غير ان حرص أميركا على جعل أسلحة الدمار الشامل حكرا على أعضاء النادي النووي يرمي الى منع قوى متوسطة بازغة ( كوريا الشمالية ، إيران ) من إمتلاك طاقات وقدرات نووية تساعدها على تحدي الهيمنة الاميركية والصهيونية .
رابعا : الفقر والمرض والأميّة والبطالـة بمـا هي عوامـل معطّلة للتعبيــر عن
المصالح والمشاركة في الحيـاة السياسيـة والتطور الديمقراطي ، أنظـر: Samuel Huntington, The Third Wave, Oklahoma University Press, 1991 . ففي بلدان الجنوب ، لا سيما منها بلدان منطقة الوسط الإسلامية الممتدة من موريتانيا إلى ماليزيا ، ثمة فجوة واسعة تفصل بين الأغنياء والفقراء . قلة فيها تملك الأرض والثروة والجاه والسلطة والمكانة ، وكثرة تعاني الفقر والمرض والأمية والبطالة . خمس وعشرون في المئة من العمالة العربية – أكثر من 20 مليون عامل – عاطل عن العمل .. الى ذلك ، ثمة ثلاثة نواقص فادحة : نقص في الحرية ونقص في المعرفة ونقص في تمكين المرأة ( نادر فرجاني ، " التنمية الإنسانية : المفهوم والقياس" ، مجلة المستقبل العربي ، أيلول 2002 ). أي دور يبقى للمشاركة الشعبية وللفعالية الديمقراطية في مجتمع مترع بمعطّلات الحرية والوعي والمرأة بما هي نصف حضوره الإنساني ؟
خامسا : إنتقام الطبيعة على نحو ما حدث في خلال كارثة تسونامي القاريّة أواخـر
العام الماضي . هل ليد الإنسان دور فيها ؟ ثمة من يعتقد أن للتجارب النووية في باطن الأرض تفاعلات وانعكاسات تؤثر في عناصر الطبيعة المنظورة منها وغير المنظورة . هذا بالإضافة إلى آثار وإنعكاسات تلويث البيئة وتسخين الكوكب الأرضي الناجمين عن حرق مقادير هائلة يوميا من الطاقة نتيجة تشغيل المصانع ، وتسيير السيارات والقطارات والطائرات ، واستعمال أجهزة التدفئة والأدوات المنزلية وإطلاق القذائف الحربيـة . حتى لو نجمت الكارثة الآسيوية عن عوامل محض طبيعية ، فإن ثمة إمكانية كبيرة لتكرارها في غير مكان من الكوكب . هل يبقى الإنسان ، لا سيما القادة والمسؤولين ، منشغلين عن التحسب لها ومعالجة آثارها الكارثية بصراعات وحروب باهظة التكلفة بشرياً وماديا ً؟
لئن كانت العولمة ظاهرة شاملة متعددة الجوانب والمفاعيل فإن مقاربتها بقصد معالجة آثارها تبقى مسألة ثقافية تتعلق بمستويات الوعي ومناهج التفكير والتدبير . الأمر نفسه ينسحب على سائر التحديات التي تواجهنا ، أي مسائل العنف ، والسلاح النووي ، والفقر والبطالة ، وإنتقام الطبيعة . في هذا المجال يمكن التفكير بثلاثة أنماط من المقاربة : الانعزال ، والاندماج ، والتفاعل الرشيد ( جيهان سليم ، " عولمة الثقافة وإستراتيجيات التعامل معها " ، مجلة المستقبل العربي ، تموز 2003).
المقاربة الانعزالية تقوم على أساس نقد العولمة وإبراز آثارها السلبية والدعوة الى إجتناب مظاهرها من خلال محاولة الفكاك من قبضة النظام الرأسمالي الدولي والتركيز على تنمية الموارد الذاتية وتطوير أشكال التعاون بين الدول . المقاربة الاندماجية تقوم على أساس تقبّل العولمة والتعامل معها بغية الحصول على مكاسبها وتحديد خسائرها ، وقياس التقدم تاليا بمدى سرعة عملية الإندماج . المقاربة التفاعلية تقوم على أساس نظرة موضوعية لمظاهر العولمة تتوخى ترشيد التعامل معها بإكتناه مكاسبها وتجنّب مساوئها في منظور نموذج حضاري يراعي خصوصية المجتمع والدولة المعنيين بها ويضمن التفاعل مع مظاهر العولمة الوافدة والتعاون مع القوى المصدرة لها والمستفيدة من حركيتها الفاعلة. لعل هذه المقاربة هي الأفضل والافعل في معالجة التحديات الخمسة سالفة الذكر .
في ضؤ هذا التقويم لمسألتي التحديات والمقاربات ، ما هي العلاجات والآليات الملائمة في هذا السبيل ؟
لمواجهة تحدي العولمة ، بما هي غالبا الأمركة في المرحلة الراهنة ، تستبين الحاجة الى نمط من العولمة الإجتماعية كان مؤتمر بورتو اليغري في البرازيل قد تصدى لإستكشافها وإرساء قواعدها ومضامينها. إنها مبادرة من طرف القوى الاجتماعية المتضررة من الليبرالية المتوحشة وشراسة النظام الرأسمالي العالمي في تعامله مع البلدان النامية ، غايتها وضع أجندة مغايرة للنظام الدولي على صعيدي الأهداف والوسائل . فالأهداف المتوخاة تتجلى في اعتبار التنمية ، كما يقرر امارتيا ك . سن ، هي الحرية بمعنى توسيع الحريات الحقيقية التي يتمتع بها البشر الأمر الذي يتطلّب إستبعاد او إزالة المصـادر الرئيســة لغياب الحريــة : الفقر والقمع وكذلك محدوديــة الفـرص الاقتصاديـة ، والحرمان الاجتماعي ، وإهمـال الخدمــات العامــة ، وغيـاب التسامـح ، واستـبداد الدولـة ، أنظــر : Amartya K. Sen, Development as Freedom ,( London : Anchor Books , 1999) , p.75.. أما الوسائل فأبرزها إعتماد المفاوضات وتحقيق التكامل الإقليمي بين الدول النامية لتقوية مركزها التفاوضي .
لمواجهة العنف وإرهاب الدولة ، كما يتبدّيان في سلوك الولايات المتحدة ، يقتضي اعتماد المقاومة المدنية والميدانية .. هذا النمط من المقاومة لا يستخدم العنف إلاّ إستثنائيا وفي حال الدفاع المشروع عن النفس . وهو ينطوي على جملة مسالك وأساليب كالممانعة والمقاطعة والعصيان المدني والإعتصام والتظاهر وحملات التوعية والتعبئة بجميع وسائل الإعلام والإتصال والتواصل . ولا شك في انه نمط وافر الفعالية حيث لمؤسسات المجتمع المدني دور وتأثير . من هنا تستبين الحاجة إلى تطوير هذا النمط من المقاومة المدنية وتفعيله باللجؤ إلى أساليب متقدمة من العصيان المدني كالإمتناع عن الخدمة العسكرية الإلزامية وعن تسديد الضرائب إذا كان غرض الحكومة في كلا الحالين التورط في حرب .. بكلام آخر ، يجب توسيع دائرة الحرية ومدلولها الإنساني بجعل الحرب ، إعداداً وتمويلاً ومساهمةً ميدانية ، فعلاً منافياً لحق الإنسان في الحياة وبالتالي العمل على تشريع الإمتناع عن المشاركة فيها . إن تفعيل هذا الأسلوب يلحق أذى بالغا بالدول الغازية والمتسلطة التي تستسهل اللجؤ إلى العنف والحرب ، شأن أميركا في العراق وإسرائيل في فلسطين ، إذ يزيد هذا الأسلوب من تكلفة الحرب وإرهاق المواطنين المكلفين ما يستولد مناخاً شعبيا وسياسيا معاديا لها . ولعل أميركا – صاحبة اكبر مديونية عامة بأرقام فلكية في التاريخ المعاصر – هي المتضررة الاولى من تفعيل أعمال المقاومة المدنية والميدانية كونها تعاني من تعاظم مديونيتها الأمر الذي يؤدي إلى إضعافها وسقوطها بفعل تمديد التزاماتها وتوسيع نطاقها والإجهاد المالي والبشري الناجم عنها ، وفق نظرية بول كنيدي. إنها فرصة مؤاتية للمقاومة في العراق (والمقاومة في فلسطين ) من أجل توسيع دائرة الاشتباك ضدها لإرهاقها ولتسريع إنحدارها ودحر إحتلالها .
لمواجهة تحدي السلاح النووي ، يقتضي النضال ميدانيا وسياسيا على جميع المستويات الرسمية والشعبية لإقرار مبدأ نزع الأسلحة النووية وإزالتها نهائيا ، وفرض رقابة جماعية ، عبر الأمم المتحدة ، على عمليات النزع والإزالة ومنع الانتشار . كما يقتضي وضع قواعد دولية صارمة لردع الدول والجماعات المخالفة والإقتصاص منها وإلزامها بعقوبات جزائية ومدنية.
لمواجهة تحديات الفقر والمرض والأميّة والبطالة ، يقتضي النضال ميدانيا وسياسيا ، على مستوى الدول كما على مستوى الشعوب ، من أجل إقرار نظام التكامل الاممي في إطار الأمم المتحدة لمعالجة تلك التحديات . فالكون ، دولا وشعوباً، أضحى بفعل العولمة مدينة ومدنية واحدة وكيانا متكاملا لا يمكن أن يعيش وسط مستويات فاضحة من التفاوت وأحوال متفاقمة من اللاتكافؤ الاقتصادي والاجتماعي . من هنا تنبع أهمية أن تعي حركة الشعوب هذا التحدي وتناضل في سبيل مواجهته بعولمة النضال من اجل التنمية والتكافل والديمقراطية .
لمواجهة تحديات ثورات الطبيعة وكوارثها المرتقبة ، تقتضي إعادة النظر بالسياسات القومية والدولية التي تنتهجها دول العالم ، لا سيما الكبرى والغنية منها ، من أجل إيلاء تحديات الطبيعة الأهمية والأولوية اللتين تستحقان . في هذا المجال ، بات من الضروري إتخاذ قرارات إستراتيجية ثلاثة :
الأول ، تقديم الصراع مع الطبيعة على الصراع بين الإنسان والإنسان ، أي بين الأمم والدول ، في كل الظروف ومهما كانت التحديات .
الثاني ، تقليص الإنفاق على أدوات الصراع بين الإنسان والإنسان ، أي تقليص الإنفاق على أسلحة القتل وأنظمة الدمار الشامل ، وأدوات القمع ، وتخصيص المزيد من الاعتمادات لمشروعات الإعمار والإنماء والرعاية والإغاثة ، ومعالجة تلويث البيئة وخفض تسخين الكوكب الأرضي ، ومواجهة كوارث الطبيعة .
الثالث ، تعزيز صلاحيات الأمم المتحدة ودورها السياسي والاقتصادي والاجتماعي بما هي حكومة العالم . في هذا السياق ، تقتضي المبادرة إلى إنشـــاء " الصندوق الدولي للطوارىء والإغاثة " بتخصيص جزء كبير من ميزانية المنظمة الدولية لتمويله ، بالإضافة الى مساهمات وجعالات أخرى يقتضي فرضها على البنك الدولي وعلى الدول الصناعية التي تسهم في تلويث البيئة وتسخين الكوكب الأرضي ، وعلى الدول المنتجة للنفط التي تسهم هي الأخرى في عمليات التلويف والتسخين بتوفيرها الوقود للدول الصناعية .
إن حركة الشعوب مدعوة إلى وعي كل هذه التحديات ، وتعزيز المقاربات والإستراتيجيات اللازمة لمواجهتها ومعالجة آثارها كون الشعوب مالكة هذا الكوكب ومسؤولة عن مصيره ، تتمتع بخيراته وجمالاته وتعاني من إنتهاك طبيعته وإنسانه وعمرانه .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) ورقة قدمت الى مؤتمر " الحملة الدولية ضد الإحتلال الأميركي والصهيوني ونصرة المقاومة في فلسطين والعراق " ، الذي انعقد في القاهرة من 24 إلى 27 آذار / مارس 2005
(*) نشرت في صحيفة " القدس العربي " بتاريخ 30-3-2005