لا يكاد حديث يمر عن بابا الفاتيكان الحالي والأدوار التاريخية التي قام بها دون الإشارة إلى دوره في مواجهة النازية والشيوعية حيث لعب الدين دورًا كبيرًا في مواجهة خطرهما، ومنذ بدء المرحلة الأولى من المشروع العسكري الأمريكي الذي استهدف أفغانستان ثم العراق والاهتمام يتصاعد بدور الدين في السياسة الدولية سواء اعتبر عامل تهديد أو استقرار، ومع انطلاق ما يسمى "مشروع الشرق الأوسط الكبير" والاجتهادات تتوالى في شأن الصيغة التي يمكن اعتمادها لاستيعاب فصائل من الحركات الإسلامية في العالمين العربي والإسلامي كجزء من عملية التغيير المطروحة. التفاؤل الكبير
وعلى غرار "الكساد الكبير" الذي شهده الاقتصاد العالمي قبل الحرب العالمية الثانية تشهد الولايات المتحدة ما يمكن أن نسميه "التفاؤل الكبير"، فالأمريكيون يتكلمون بلغة ملؤها الثقة عن قدرة نموذجهم السياسي على حل مشكلات العالم وفي مقدمتها حالة الاحتقان السياسي المزمن التي يعانيها العالم العربي، بل إن بعض الأكاديميين يبلغ تفاؤله حد التبشير بأن يؤدي استيعاب الحركات الإسلامية سياسيا في العالم العربي إلى انهيار العلمانية "امبراطورية الشر الثانية".
ففي مقال له بعنوان: "الإسلام ونهاية العلمانية" (الموقع الإليكتروني لقناة الجزيرة الفضائية 19/ 7/ 2004) يراهن الأكاديمي الأمريكي المعروف جون فول على دور رئيس للإسلام في القضاء على العلمانية على غرار الدور الذي قامت به الفاتيكان في هزيمة النازية والشيوعية. ويرى جون فول أنه "عند الحديث عن العوامل الإثنية والدينية في علم الاجتماع البشري اليوم، فإن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو: هل نحن سائرون إلى صراع أم إلى تصالح؟ ورغم أن مفكرين كثيرين يرون أن عنصر الدين يمثل مشكلة في عالم اليوم، فإنني أرى أن الدين يصلح أن يكون سبيلا للتصالح والوفاق".
"فعلى مدى ما يقرب من ثلاثة قرون، دأب علماء الاجتماع والمثقفون الغربيون البارزون على تأكيد أفول الدين وساد اعتقاد بأن التحديث هو المحرك الذي سيتسبب بصورة حتمية في إقصاء الدين عن الحياة، ويؤكد فول أنه لا بد من إعلان نهاية إيمان علم الاجتماع بنظرية العلمنة، والإقرار بأنها لم تكن إلا محصلة لأفكار وتوجهات محببة. فبعد نحو ثلاثة قرون من إخفاق نبوءاته، حريٌ بمبدأ العلمنة أن يُلقى في مقبرة النظريات الفاشلة".
فهل العلمانية محايدة؟!
يطرح الأكاديمي المعروف مجموعة من التعميمات التي يؤسس عليها تصوره فيقول: "أظن أننا نشهد عالما يسقط الفكرة القائلة بأن التحديث يؤدي بالضرورة إلى إقصاء الدين. فقد أدبرت تلك الحقبة التي سادت فيها تلك الفكرة. وبالنظر إلى دور الولايات المتحدة في شؤون العالم، جدير بنا أن نتقبل فكرة نهاية العلمنة كأحد أبعاد عملية التحديث، وليس باعتبار ذلك أيديولوجية منافسة أو بديلة".
ويحدد فول ثلاثة عناصر تشكل إطار رؤيته هي أولا: إن خبرة مجتمعات عديدة في العالم خلال نصف القرن الماضي تظهر أن التحديث لا يعني انتهاء دور الدين كقوة فاعلة رئيسة في الحياة العامة. وهذا يعني بدوره أن علمنة المجتمع ليست جزءا أصيلا في عملية التحديث. ثانيا: أن من الواضح أن سياسات "فصل الكنيسة عن الدولة" أو "فصل الدين عن السياسة" لم تكن محايدة دينيا. أي إن الدعوة للعلمنة والعلمانية اتخذت في حد ذاتها موقفا أيديولوجيا ودينيا. فهذه الدعوة إذن ليست وصفا موضوعيا منفصلا عن القيمة لما يحدث في عملية التحديث. ثالثا: مما تقدّم - وباستخدام مصطلحات السياسة – فإن العلمنة ليست شيئا يحدث كجزء طبيعي من العملية التاريخية للتحديث. بل يمكن أن ينظر إلى العلمانية كما أظن أنها كانت دائما واحدة من رؤى عديدة متنافسة حول ما ينبغي أن يكون عليه المجتمع في الحقبة المعاصرة. أي إننا نشهد نهاية حقبة كانت تعتبر فيها العلمنة معطى لازما في تطور المجتمعات الحديثة. إننا نشهد نهاية العلمانية.
ويرى فول أن "لهذا المنظور الجديد أهمية خاصة لأجل فهم الإسلام المعاصر, ففي العالم الإسلامي كان ينظر دائما وبوضوح للدعوة إلى علمنة المجتمع باعتبارها أيديولوجية منافسة، أكثر من كونها جزءا ضروريا وأصيلاً في عملية التحديث. فعلى مدى قرنين، ركزت المؤثرات (والنتائج) الرئيسة لعملية الإصلاح في العالم الإسلامي على إنشاء أمم حديثة، ودول حديثة، ودول قومية حديثة. وفي وقت مبكر، أدت الفكرة السائدة حول أن التحديث يشمل قدرا من فصل الدين عن الحياة العامة إلى وسم دعاة الإصلاح والتحديث بالعلمانية".
"كانت أهم عناصر برامج الإصلاح والتحديث، في القرنين التاسع عشر والعشرين، إحداث انفكاك واضح من الماضي؛ الذي كان يعتبر ويعرّف باعتباره "تقليديا". وقد أكد ذلك ما صدر في خمسينيات وستينيات القرن الماضي من دراسات العلوم الاجتماعية الرئيسة المختصة بتعريف التحديث. لكن مع وصولنا لنهاية حقبة ساد فيها الاعتقاد بأن العلمنة جزء أصيل في عملية التحديث، فإننا نرى أن الكثيرين من الحداثيين في أكثر المجتمعات تحديثا يعتقدون – وهم في مستهل القرن الحادي والعشرين – أن السياسات ليست بالضرورة بديلا عن الصلاة"!!!.
فهل تترجم الأفكار إلى مخططات عملية تسهم في توجيه السياسة الخارجية الأمريكية؟

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية