ما كشفه رئيس الآلية المكلفة بملف المفقودين فاروق قسنطيني في تقريره النهائي المسلّم لرئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة في بحر الأسبوع الماضي، بحيث ألصق تهمة الإختفاءات القسرية لأعوان الأمن. ومن غير الإفصاح عن جوهر هذه التهمة الجاهزة، لم يكن ذلك خافيا على أحد من قبل، ولا من بعد كون العملية من أساسها متعلقة بالوضع الأمني الذي من غير شك سيضطلع به رجال الأمن لا غير، لكن ما جاء في التقرير وهذه المكاشفة الجديدة أن فاروق قسنطيني رمى بالكرة في مرمى المجهول من حيث أنه أراد أن يعبر عما تريد أن تطمئن إليه عائلات المفقودين، ويطمئن إليه الرأي العام، فجاء تعبيره شبيها بقول الشاعر عندما أراد أن يصف قوما حولهم الماء، كأنهم والماء حولهم..قوم جلوس حولهم ماء.
فاروق قسنطيني بخرجته(أو بدعته) الجديدة، وإن اطمأنت إليها عائلات المفقودين ربما لأول مرة، واستساغها الكثيرون واعتبروها جرأة قل نظيرها في تاريخ النظام الرسمي في الجزائر، لأنه لأول مرة توجه أصابع الاتهام لجهاز بحساسية الجهاز الأمني وبثقله في الحفاظ على الأمن العام، والذود عن مكاسب الجمهورية الجزائرية، فهي في نفس الوقت خرجة غير مؤسسة من الوجهة القانونية بما أن الأمر برمته مرتبط بما هو قانوني، فقسنطيني لم يكلف نفسه عناء ليشرح للجميع قراره أو لب الحقيقة المتوصل إليها على أن كل من فقد إبّان الأزمة الدامية فمسؤولية ذلك تقع على عاتق رجال الأمن، وما هي الجهات الرسمية التي أمدته بكل هذه المعلومات حتى تلبس التهمة جهاز الأمن؟.كما لم يجهد نفسه ليوضح بشكل جلي الخطوط العريضة المتوصل إليها وآليات البحث.
لأن البحث في مثل هكذا ملف بحجم ملف المفقودين لا يحتاج إلى مجرد تصريح قد يكون غير مسؤول، أو ينم عن غرض ناء عن الحقيقة المرجوة، وقد جاءت مكاشفة المسؤول الأول على الآلية المكلفة بملف المفقودين لتحل أختها في ما تعلق بتحقيق حول اغتيال الرئيس محمد بوضياف الذي قيل في مطوياته أن القاتل امبارك بومعرافي دافعه الإجرامي القوي هو ما كان يقرأه من كتب دينية، وما تلقاه من دروس أصولية، جعلته أقرب إلى الجماعات المسلحة في قتل كل ما تصادفه، إنسان كان أو جماد. ولو أن المقارنة، والمفاضلة غير واردة بالمرة لكنها تتقارب في حالة تشابه السيناريو عندما تتعلق بالتحقيق الأمني، والمغزى العام المراد من وراء ذلك.
ولو كانت هي المرة الأولى حيث يختفي من الواجهة ملف الجماعات المسلحة وضلوعهم في عملية الإختفاءات، لكن هذا لا يعني أن المعلومات التي قدمها فاروق قسنطيني هي عين الحقيقة ولا وراءها حقيقة أخرى. فالقانونيون وخبراء التحقيقات لا يسلّمون بما جاء به التقرير ليس لأن التقرير خال تماما من القرائن والشواهد والأدلة على الرغم من أن التقرير نفسه لم يطلع عليه إلى الآن أحد كما عبر عن ذلك أحد قياديي الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان التي يرأسها يحي عبد النور لإحدى الجرائد اليومية، وإنما كون التقرير جاء بصياغة سلطوية، وبتصريح مائة بالمائة سلطوية فيحتاج ساعتئذ إلى وقفة تحليلية تمحيصية كي نتمكن من استشفاف خطأه من صوابه، خلفياته، وأبعاده.ونقف على الحقيقة الجديدة التي من غير أدنى شك ليست كل الحقيقة التي يرغب فيها المتضررون من عائلات المفقودين.
وقد تعطي تصريحات فاروق قسنطيني بعدا آخر في القضية من حيث أنه أراد أن ينهيها بالشكل الذي صرح به، بل تزداد تعقيدا على ما هي عليه لأن عائلات المفقودين مطلبهم واضح هو إما إرجاع المختطف قسرا إلى ذويه، أو تقديم الحقيقة كما هي من غير الدخول في تمويهات كلامية أو تصريحات إنشائية لا تكون قريبة من الواقع. أما مسألة التعويضات المادية فهي تأتي في مؤخرة الأولويات بل تعد منطقية ومعمول بها لدى كثير من الدول في أغبر الأزمان، وليس حاليا فقط . وكما تحدث شخصيا مع إحدى المفجوعات في أزواجهن من عائلات المفقودين فقالت لي ، بأننا لا نمانع التعويضات المادية لكن في المقابل نبحث عن صيغة مع السلطة لإيجاد حل لطي هذا الملف، وكذلك إصدار قانون يتكفل بأبنائنا بعد ذلك، وهذه السيدة في سفر دائم بين إسبانيا وسويسرا، وفرنسا مع منظمات حقوق الإنسان العالمية.
وإن كانت عمليات الاختطاف تمت من طرف أعوان الأمن، كما يقول فاروق قسنطيني، فهل بإمكان السلطة أن تجد الحل الجذري لذلك، وكما جاء على لسان إحدى السيدات " أن الأمر إذا كان بالشكل المعروف، فالظن الأكبر أن المختطفين لم يتبخروا وهم بالتالي موجودون ومن ثم فنحن نطالب بمكان تواجدهم"، وإذا ما علمنا أن جهاز الأمن في الجزائر من أضبط الأجهزة، وتحريكه لا يتم بتلك التصورات التي يتصورها العاديون من الناس، فما يحكم الأجهزة الأمنية هو الانضباط، وبالتالي فعملية بحجم ما عرفته الجزائر حول اختطاف الناس من أحضان زوجاتهم وأولادهم وبنيهم لا يتم بصفة عشوائية، خصوصا وأن الذين يقصدهم فاروق قسنطيني هم أشخاص يأتمرون بالأوامر الفوقية، ولا يتحركون من تلقاء أنفسهم، ولا نقصد أبدا تلك العمليات الشاذة جدا أو ما يصطلح عليها بالعمليات المعزولة،التي يقوم بها أفراد من محض أنفسهم.
إن ما خص به فاروق قسنطيني الرأي العام من تهمة موجهة لأعوان الأمن، ومن غير تمطيط لهذه التهمة كي تفهم على وجه صحيح، هو بمثابة الكلام المنمق الجميل الذي يبحث عنه المتضررون منذ مدة، لأن عائلات المفقودين من بداية التحقيق حول الإختفاءات القسرية وهم يركزون تحديدا تهمتهم على رجال الأمن، مبعدين عن الملف ما كان يروج له الاستئصاليون عن أن عملية الخطف وراءها الجماعات الإسلامية المسلحة.
ولم يزد فاروق قسنطيني شيئا عما يقوله الناس في مجالسهم خلسة، ولو أن التصريح على ما له من فاعلية تنفيسية، لدى الجميع، وينحو منحى خطاب الرئيس بوتفليقة في تعامله مع القضايا الطابوهات، فهو باعث على الرثاء أيضا لأن ملف المفقودين بدلا من أن يغلق نهائيا سوف يفتح من جديد، ويعلم الله كيف يغلق، وكيف ستكون هي الحقيقة؟