فكما أن الإسلام لا يجوزه اختصاره في مفاهيم مشوهة قاصرة كذلك الغرب ، فهو ليس كيانا واحدا مصمتا بل عالم مركب فيه المتحيزون والمنصفون ، وفيه المضللون الذين لا يجدون مصدرا يمكنهم عن طريقه تكوين صورة أكثر اقترابا من الحقيقة عن الإسلام والمسلمين . وعموما ، و تجب التفرقة كذلك بين الشعوب والحكومات ، وبين المؤسسات الإعلامية والأوساط الأكاديمية ، وهكذا …
ولعل ما شهدته الدعوة الإسلامية من نجاحات عقب هذه الأحداث ، متمثلة في دخول آلاف الأمريكيين الإسلام تؤكد أن العداء المتصور " بضاعة " تروج وليس موقفا مبدئيا كاسحا يلتزم به كل غربي أو كل أمريكي . وإذا أخذنا علم الاستشراق كمثال طالما وضع في إطار تآمري بوصفه عملا عدائيا منظما استهدف تشويه صورة ثقافتنا ، وجدنا التعميم مخلا إلى حد بعيد . فرغم أن صلات وثيقة ربطت بين كثير من المستشرقين وبين مؤسسات سياسية وأمنية غربية بعضها استخدم المستشرقين لخدمة أهداف استعمارية ، إلا أن الظاهرة لم تخل من إيجابيات كثيرة يصر كثيرون على إهدارها .
ومما لفت نظري بشكل خاص إلى هذه الحقيقة ما يقرره واحد من أهم الباحثين الإسلاميين المدققين في النصف الثاني من القرن العشرين ، هو الأستاذ الدكتور حسين مؤنس صاحب العديد من الأعمال الموسوعية في حقلي التاريخ والجغرافيا ، إذ يقول ، في مقدمة الطبعة الأولى من مؤلفه الضخم " تاريخ الجغرافيا والجغرافيين في الأندلس " :
" كلامنا عن العلوم عند العرب كثير ، وحديثنا عن فضلهم على الحضارة العالمية أكثر ، ولكننا إذا استثنينا قلائل منا صرفوا العناية إلى التأليف في العلوم عند العرب وخدموا هذا المطلب بالبحث والتأليف من أمثال : أحمد عيسى ، ومصطفى نظيف ، ومصطفى الشهابي ، ونفيس أحمد ، وزكي وليدي ، وبهجة الأثري ، وقدري حافظ طوقان وغيرهم من أجلاء العلماء ، وجدنا أن معظم ما نفخر به في هذا المجال إنما هو من كشوف غيرنا ، من أمثال : جورج روشكا ، وهانز فون مجيك ، وجورج سارتون ، وكارلو نللينو ، وبول كراوس ، وألدو مييلي ، وهاينريش سوتر ، وماكس مايرهوف ، وكونراد ميللر ، وخوان بيرنيت ، وغيرهم كثيرين جدا ، ممن أنفقوا - وينفقون - العمر في دراسة المخطوطات العربية في العوم وحل رموزها وإثبات فضل العرب وأهل الإسلام على هذا العلم أو ذاك بالحجة والبرهان الساطع " (2) أ . هــ
واقتصار اهتمامنا على الدوائر التي تصنع صورة " الإسلام العدو " في الغرب من المؤكد أن له ما يبرره ، فتاريخ العلاقة بين الجانبين منذ الحروب الصليبية يحكمه العداء ، وثمة محاولات لإعادة صياغة هذه العلاقة الشائكة على نحو مختلف ينبغي ألا تهمل وسط صخب الخطاب التحريضي ، فمثلا الكاتب الأمريكي المعروف جون أسبوزيتو (3) ، أصدر مؤخرا ( مارس 2002 ) كتابا جديدا يحمل عنوان : " الحرب غير المقدسة ، الإرهاب باسم الإسلام " طرح فيه تصوره للسياق الصحيح الذي ينبغي أن توضع فيه أحداث الحادي عشر من سبتمبر ، محذرا من أن صدى مضاعفات الماضي ما زال يتفاعل في النفس المسلمة .
فلقد أحدثت تركة الاستعمار الأوروبي – حسب رأي أسبوزيتو - جرحاً غائراً في المسلمين في كل مكان . وكان الإسلام ، بالنسبة للغربيين ، ديانة السيف والجهاد أو الحرب المقدسة ، بينما كانت المسيحية ، بالنسبة للمسلمين دين ، الحروب الصليبية وطموحات الهيمنة . كذلك يقدم إسبوزيتو في كتابه عروضاً موجزة عن حركات إسلامية كالإخوان المسلمين في مصر ، وحماس والجهاد الإسلامي في فلسطين ، وحزب الله في لبنان ، وجبهة الإنقاذ الإسلامية في الجزائر ، ويشير إلى أن عدداً من دول الشرق الأوسط تشهد حالياً انبثاق : " تيار إسلامي غير عنيف ، فعال سياسياً ، لا يرفض الديمقراطية ، وليس مناهضاً للغرب " .
والدراسات التي تحاول إعادة بناء صورة الإسلام والمسلمين في الذهنية الغربية لا تكاد تنقطع ، وإن كانت لا تلقى الاهتمام الكافي ، وإحدى أهم هذه الدراسات ، صدرت بالألمانية وعنوانها : " الإسلام العدو : بين الحقيقة والوهم " ( 4) ، وفيه تحذر الكاتبة الألمانية أندريا لويج من ظاهرة من تطلق عليهم " الخبراء الوهميين " أمثال جيرهارد كونستلمان وبيتر شول لاتور الذين سيطرا على أجهزة الإعلام لسنوات دون منازع بوصفهما خبيرين في شؤون الشرق الأوسط . ولا شك في أن سيطرة ما يسمى " ثقافة الصورة " ، والغياب شبه التام لقوى عربية أو إسلامية تقوم بجهد إعلامي مقابل ، يمنح هذه لبضاعة المسمومة فرصة ذهبية لأن تروج على أوسع نطاق .
ورغم الانتشار الكاسح لهذه المقولات لم يعدم العالم الغربي أن يجد أصواتا تزعجها ظاهرة " الخبراء الوهميين " فخاضت ضدها حروبا ، لكن ذلك – للأسف – لم يغير ذلك من الأمر شيئا حتى الآن . وبدلا من التحليل العلمي الجاد رسمت للعالم الإسلامي صورة وهمية من خلال تضخيم المخاوف النفسية والعنصرية . ومن هنا ، وجه المستشرقون في جامعة هامبورج الاتهام لبعض خبراء الإعلام بأنهم يعملون بأساليب غير شريفة على توسيع الفجوة بين الثقافتين الشرقية والغربية وتعميقها ، بالإشارة دائما استحالة الحوار بينهما .
ولا تقتصر الظاهرة على ألمانيا ففي فرنسا هناك مثلا ألكسندر دل فاله الذي يعد جزءاً ممن تسميهم صحيفة " لوفيغارو " الفرنسية " حلقة الخبراء السحرية " المدعوين في شكل دوري إلى شاشات التلفزة ، وبخاصة منذ الحادي عشر من أيلول / سبتمبر . فهو كنموذج لهؤلاء الخبراء ، لا يحب التعقيد ويرى أن العالم يمكن تحليله بسهولة ، ومن تحليلاته الواسعة الانتشار : " إن مبدأ رفض الحكم الكافر هو الذي يفسر غالبية النزعات بين المسلمين و " الكفار " في كشمير والسودان وأرمينيا والشيشان وحتى في كوسوفو ومقدونيا حيث أصبح المسلمون يشكلون الغالبية السكانية " . ( 5 ) وبطبيعة الحال تحدث مثل هذه التفسيرات أثرا خطيرا في الغرب الذي يحتفظ للحروب الدينية بأسوأ الذكريات ويربط بينها وبين مفاهيم سلبية عديدة .
وتكشف أندريا لويج عن جهل فاضح بالإسلام والثقافة الإسلامية بين المتخصصين وتنقل عن اثنين من المتخصصين الألمان هما أرمجارد بين وماليز فيبر قولهما : " إنه لمن التناقض الغريب والمدهش حقا بين عدم معرفتنا بالإسلام والثقافة الإسلامية وبين ثقتنا الشديدة في إطلاق الأحكام عليهما ، ولم يحدث مرة أن استنكر هذا الجهل ولو مرة واحدة ، بل إن النقد والاتهام يوجه باستمرار إلى تلك الثقافة دون أدنى حرج " .
وفي معظم الحوارات التي تدور عن الإسلام تتكرر دوما عبارة " إنني لا أعرف شيئا عن الإسلام ولكن … " و تعلق لويج قائلة : " إننا لا نفيق عند ( لا أعرف ) هذه لأنها ببساطة تسمح لنا ببناء عالم آخر ، عالم إسلامي حتى لو لم يتسق هذا البناء مع الواقع ، وهو فعلا كذلك . فهو مطلوب لفصل ( نحن ) عن ( الآخر ) والداخل عن الخارج فصلا لا ينمحي لكي يؤمن حدود الهوية الغربية وحصنها ، وهنا تظهر الكلمة السحرية ذات الحروف الخمسة ( إسلام ) فتنشر الفزع " . بل إن أحد أساتذة العلوم السياسية النمساويين يحذر من أن إنسانية الغرب مهددة أكثر من أمنه بسبب العداء للآخر .
ولا تعني مثل هذه الحقائق أن ميراث العداء ذهب إلى غير رجعة أو أن العلاقات القائمة تخلو من عوامل التوتر ، فما زال العلاقات بين الشمال والجنوب عموما تفتقر إلى التوازن والعدالة وتغلب عليها إرادة الهيمنة الغربية ، وما تعانيه ثقافات الجنوب من هذا الواقع تعاني الثقافة الإسلامية منه النصيب الأكبر ، ويشكل الموقف الغربي المنحاز للكيان الصهيوني العقبة الأكبر في طريق قيام علاقات إيجابية بين الطرفين .
كما أن تغير صورة الإسلام والمسلمين في الغرب على نحو إيجابي مرهون بعوامل عديدة أولها ضرورة تحديد منابع السيل الهادر من الصور السلبية وبذل جهد لتصحيحها بالوسائل التي تناسب المجتمعات الغربية وباللغة التي يفهمها المواطن الغربي . كما أن إعادة بناء الصورة مرتبط بشكل مباشر بإعادة بناء واقع العالم الإسلامي نفسه ، فمما يلفت النظر أن كثيرا من الغربيين الذين اعتنقوا الإسلام ورأوا في قيمه طريقا للنجاة هالهم حالة التخلف التي يعيشها العالم الإسلامي . وبالتالي فإن قدرتنا على بناء عالم أفضل تأسيسا على قيم الإسلام وثقافته ، رد عملي على كل ما يلصق بنا من صفات سلبية ، وهو أبلغ من كل رد !!
.....................
1) Serge Daney, Devant la recrudescence des vols de sac à main, Aléas, Lyon, 1991, pp. 110-111.
(2) تاريخ الجغرافية والجغرافيين في الأندلس : بحث في الملكة العلمية عن طريق تاريخ علم واحد في بلد واحد – تأليف : الأستاذ الدكتور حسين مؤنس – تقديم : الأستاذ الدكتور محي الدين صابر - الطبعة الثانية 1986 – الناشر : المنظمة العربية للتربية والعلوم والثقافة ومكتبة مدبولي – القاهرة – والنص من مقدمة الطبعة الأولى وهي قبل بدء الترقيم .
(3) يعد أحد أبرز المتخصصين في الإسلام في العالم الغربي ، إذ وضع ثمانية كتب وحرر اثني عشر عملا موسوعيا ، وهو ، بالإضافة إلى ذلك ، أستاذ محاضر في مادة الديانات والشؤون الدولية والمدير المؤسس لمركز التفاهم الإسلامي-المسيحي ، التابع لكلية وولش في جامعة جورجتاون بواشنطن العاصمة ، وقد وضع ثمانية كتب وحرر اثني عشر عملا موسوعيا وهو ، بالإضافة إلى ما سبق ، أستاذ محاضر في مادة الديانات والشؤون الدولية والمدير المؤسس لمركز التفاهم الإسلامي-المسيحي ، التابع لكلية وولش في جامعة جورجتاون بواشنطن العاصمة .
( 4) الإسلام العدو : بين الحقيقة والوهم – تحرير : يوخين هيبلر وأندريا لويج – ترجمة : أيمن شرف – الناشر : الفرسان للنشر والتوزيع – مصر – سنة النشر 1994
( 5 ) Le Figaro, 25 septembre 2001