في ضوء المزايدات الكلامية، وتضاد التصريحات بين وزارة أبو بكر بن بوزيد، ونقابة المعلمين غير المعتمدة ورقيا، من له أحقية على الآخر ، ومن يملك الشرعية من غيرها، ومن هو على صواب، ومن على خطأ؟ يبقى اللاتوافق بين الجميع من نفس الأسرة الواحدة هو سيد الموقف الذي يحكم بنية العلاقة العضوية التي يفترض أن تكون أكثر حميمية في مثل هذا الظرف الخاص جدا، والمنعرج الخطير الذي تمر به الجزائر، والمنظومة التربوية على وجه التخصيص، وغضّا للطرف من يحوز الحقيقة ، على من يفتقد للشرعية، وللموضوعية فإن الخاسر الأكبر هو المنظومة التربوية، لأن هذا مسطر منذ الأزل ، فما تداعى بنيان حضارة دولة إلا بتداعي منظومتها التربوية، وما تداعت منظومة تربوية إلا بتداعي المحور الرئيسي الذي هو الأستاذ.

ما يجري بين الوزير بوبكر بن بوزيد، وبين التنظيم النقابي الكناباست الذي يقول فيه رئيس الحكومة أحمد أويحيى، بأنه غير شرعي، كونه لا يملك ورق اعتماده، ولا يملك حق الإضراب، والمطالبة بحقوقه المجملة حسب اتفاق قيادة هذا التنظيم النقابي، في تحسين ظروف الأستاذ المهنية والاجتماعية، من شد وجذب لا تفسير له ولا مبرر له، إلا أن الجميع دخلوا في مبارزة ولو أنها غير متكافئة، قد تفتح أبوابا على المجهول، يكون للهوى فيه سلطان على العقل من حيث أن المسألة برمتها متداخلة، وتحتاج إلى عقلانية من الجميع، كما تحتاج إلى حصافة في التفكير.لأن في مثل هذه الصراعات لا أحد بإمكانه أن يقول عن نفسه بأنه استطاع أن يتحكم في الساحة لصالحه ولو كانت الحكومة ممثلة بوزارة التربية، لأن المعلوم منه بالضرورة أن الغالب في مثل هذه الصراعات التي تستطيع أن تطحن أجيالا بأسرها، وتؤخر المسيرة الإصلاحية التي باشرتها الحكومة لعدة سنوات أخرى،على علاّتها، مغلوب ولو قعد على أطلال الخصم بتمزيقه إربا.
ولو أن الصراع كان محتدما بين الحكومة، و بين قطاع آخر، غير قطاع التربية لهانت الأمور، و لاستطاع أي أحد من الملاحظين، أن يقدم الأعذار لذلك ، لكن وأن تمتد النار إلى أقدس بيت في الوجود، وأكثر قطاع حساسية عند كل إنسان كان كافرا،أو مسيحيا،فضلا عن كونه مسلما،فإن ذلك يصبح غير مقبول بتة،ويتطلب من الجميع التعجيل في إيجاد حل لهذه المعضلة .
ولا يستطيع كائن من كان أن يفرض رأيه على الآخر ما دامت قنوات الحوار بين المختلفين حول مسألة الزيادة في الأجور، وهي مسألة إن توخينا الحقيقة وليس دفاعا عن الأساتذة في مثل هذه المواقف، فيها جانب كبير من العقلانية، وجانب أكبر من الشرعية، لأننا جميعا نعلم بأن الظروف التي يعمل في سياقها الأستاذ على مختلف أطواره،غير مشجعة زيادة على ما يتقاضاه من ملاليم في ظل الزيادات الجهنمية في الأسعار،هذا على مستوى المواد الغذائية. وأما الحديث عن المظهر الاجتماعي اللأئق والمطلوب كي يؤدي الأستاذ دوره المنوط به كما ينبغي، ويستطيع أن يطمح ويحلم، وتكون له فعالية على كل مستويات المجتمع،هي في حكم المجهول ولا نريد التطرق إليها.
قد تقول الحكومة بأن الزيادة في الأجور لهذا القطاع تم الفصل فيها من منطلق أنه استفاد مؤخرا بما فيه الكفاية، بيد أن المشكلة لم تنته عند هذا الحد وبقي الاحتجاج، وبقيت القلاقل وبقيت جذوة المشكلة مشتعلة، وإذا لم تذعن الوزارة إلى الحوار من أجل فض النزاع والوقوف على كل المشاكل التي تجابه مؤطري المنظومة التربوية، بتحديد الحقوق والواجبات فإن الحرائق بكل تأكيد سوف تأتي على الأخضر واليابس، وليس نافعا من أي طرف كان سواء الوزارة الوصية، أو التنظيم النقابي ومن يتبعه،أن تبقى المشاكل معلقة إلى حين، ويبقى التراشق بالكلمات، وتوجيه التهم بمسوغ وغير مسوغ، أو تحاول الوزارة اللجوء إلى التهديد والوعيد، وتطبيق سياسة الكل أمني في مثل هكذا قضايا،التي لا تحتاج إلى تدخل الذهنية البوليسية بقدر ما تحتاج إلى تواجد الحس الوطني، والتفكير البناء، وتقاسم الأعباء، والجلوس إلى طاولة الحوار مباشرة .
ولنا في من نريد الاقتداء يهم كقدوة اليابان على سبيل المثال، التي بدأت مسيرتها النهضوية باجتماع كل القوى الفكرية الحية في البلاد، بعد الحرب الكونية الثانية أي بعد حركة الإمبراطور ميجي بعدة سنوات،إذ أول ما تم التطرق إليه هو ماذا نحن فاعلون،فقالوا يجب الاهتمام بالعلم، وعلى استحسان هذه الكلمة إلا أنها تبقى مطّاطة، تقبل كل تأويل، فزادوا أنه يجب الاهتمام بالمنظومة التربوية، وما صاحبها من تحسين، لكن بقيت المشكلة تراوح مكانها ولا تفي بالغرض المطلوب، فلجأوا إلى كلمة جامعة وهي الاهتمام بالأستاذ لأن الأستاذ هو الذي يخرّج العالم، وهو الذي يخرّج الوزير، وهو الذي يخرج الصعلوك، وهو الذي يخرّج رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، ومنه تنطلق كل الإنطلاقات، والنهضة الشاملة،و رأينا إلى أين وصلت اليابان التي بدأت مسيرتها مع مسيرة محمد علي باشا.
ولا نذهب بعيدا فهذه تونس الشقيقة التي يتقاضى الأستاذ فيها أضعاف ما يتقاضى الأستاذ الجزائري. وأذكر منذ ثلاث سنوات فقط أن معلمة تونسية في الطور الابتدائي كانت تجلس بجانبي في الحافلة من تونس العاصمة إلى الكاف تتقاضى كما أخبرتني ما قيمته أربعمائة وخمسون دينار،وهذا المبلغ يمكن ضربه في سبعة أو زيادة لنحصل على قيمته بالدينار الجزائري،ولو أن الحساب في مثل هذه العلاقة غير منطقي ،ولكن فقط لنعرف إلى أي مدى وصل إليه مستوى من ينتمي إلى المنظومة التربوية في تونس، مقارنة مع من ينتمي إلى المنظومة التربوية في الجزائر.
وجميع الدول المتقدمة التي تتحكم في التكنولوجيا عبر العالم أول من يكون محل اهتمام من طرف الدولة هو الأستاذ ،و أول من تسخر له كل الإمكانيات لأن العطاء الذي يقدمه للأمة، سوف تجني منه الدولة والأجيال أضعافا مضاعفة.فلماذا تبخل عليه الحكومة بملاليم، وهي في المقابل تصرف الملايير على ما لا قيمة له أحيانا كالحفلات الغنائية، والشطح والردح.فلتجرب الاهتمام بالأستاذ من كل النواحي وسوف ترى ما يستطيع أن يقدمه وما يتمكن أن يجلبه من أموال. وهل هناك أكبر من أن يخرج جيل جزائري يقود المسيرة التكنولوجية، ويدفع بوتيرة التنمية نحو التقدم. فلماذا إذن نريد إصلاح المنظومة التربوية من ذيلها متناسين بأن الإصلاح لا يتم إلا من سنامها.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية