حالة من التململ هذه الأيام تدور في الأوساط السياسية والإعلامية،وتطبع المشهد السياسي في عمومه على أن شيئا ما يحبك في الكواليس متعلقا تحديدا بالتغيير الحكومي،الذي يأتي في ظرف خاص تستعد فيه الجزائر حسب إشعار النظام الرسمي أن تقلع اقتصاديا، وتحقق تقدما ملموسا في مجال التنمية، وإن كانت هذه البروباغاندا تريدها السلطة الفعلية بغرض تزيين مراسيم العرس الاقتصادي المنتظر، بعد أن حال الحول على العرس السياسي، بانتخاب عبد العزيز بوتفليقة رئيسا للجمهورية، للمرة الثانية،فإن الأهم من كل هذا هو تحقيق حلم الشعب الجزائري قاصيه ودانيه في أن يجد لنفسه مخرجا من الدوامة التي تخنق أنفاسه،ومن حالته المعيشية السيئة، أما تغيير الحكومة من عدمه، فأمر له أصحابه، وله مهوسيه، لا يخاله المواطن المعدم إلا ترفا إعلاميا. وإذا كان هناك المنشغلون هذه الأيام،كما تمرسوا على ذلك دائما بما سوف ينضح به قرار القاضي الأول حول أسماء الفريق الحكومي الجديد، فإنه ليس جديدا بأن ينغلق الناس على أنفسهم ويصموا آذانهم، و لا يكترثوا إطلاقا بهذه الأخبار، لأن الجميع تعودوا على أن التغيير الحكومي كلما جاء، جاء أعرجا، مريضا بالأنيميا التسييرية، و مخيبا للآمال، وإن لم يكن مخيبا للآمال، يكن لا حدثا لأنه تغيير حكومي منطلقه ومنتهاه،م جرد بروتوكول شكلي لا يستطيع أن يحمل ولو ذرة من التغيير التي يريدها المواطن الغلبان على مستوى معيشته اليومية، أو على مستوى مستقبله القاتم.
التغيير الحكومي إذا تم كما تشير المعلومات من المخبر السلطوي، فهو مؤشر على أن السلطة الفعلية أرادت أن تخلق على مستوى الإدراك الجمعي حالة من الاطمئنان النسبي، وبخاصة في هذا الظرف الاقتصادي الخاص وهذه الانطلاقة التنموية التي يبشروننا بها منذ 1999، كون التغيير سوف يشمل كل شيء ،كما يعطي في نفس الوقت استدلالا على أن الورشة الاقتصادية التي سوف تنطلق أشغالها عما قريب، يتوجب ضمنيا تغييرات على مستوى التشكيلة الحكومية،التي سوف من غير شك ستضطلع بمهام التنمية المستدامة والإقلاع الاقتصادي المطلوب. زيادة على التبشير بعهد المحاسبة، وقص عروق الراشين والمرتشين باقتفاء آثارهم أينما وجدوا، و حلوا وارتحلوا.
ولكن هل هذا التغيير الحكومي المبشر به يكون تغييرا للمخبر، وللنظرة السياسية، والاقتصادية للسلطة الفعلية، أم سيكون مجرد تغيير مظهري سرعان ما يلبث أن يمسه تغييرا آخر، ليعاود كرة أخرى و يمسه تغييرا مماثلا. فكثير من المحللين ينظرون إلى أن التغيير الذي لا يأتي بثمار التغيير الحقيقية، وينعكس إيجابا على مستويات حياتية للمجتمع، فلا طائل منه، وهو تغيير يدرج ضمن دائرة الضحك على الذقون، وذر للرماد في العيون، كما هو تأخير للحل، وتعطيل للتنمية والتطور الاقتصادي. بل سيزيد للطينة بلة بأن ينساق المجتمع برمته نحو اختيار الاعتماد على النفس في إيجاد الحلول الخاصة، وإدارة الظهر لكل ما هو رسمي مما يخلق حالة من النفور، وانعدام الثقة في السلطة القائمة، وهذا ملاحظ اليوم على عدة مستويات حكومية، كون المواطن لا يأبه بما تقوله الحكومة وما تقرره إلا إذا كان مفروضا بعصا السلطان.
الخيار الاقتصادي الليبرالي الذي أصبح لا رجعة فيه، قد لا يجد حاضنا له بالشكل المرغوب من حيث المبدأ الاقتصادي نفسه الذي لا يلتفت للقرارات الرعناء المبنية على محض النزوة،ومطلق النظرة الضيقة،والمصلحة الآنية، وحتى لو جاء التغيير فوقي- ونحن نظن بأن التغيير الحكومي الذي يتحدثون عنه مرتبط أساسا بمشروع الإنعاش الاقتصادي،فالأيام السلطوية علمتنا بأن أي مشروع تريد تنفيذه إلا وتحب أن يكون له وجوها جديدة طبعا بسياسة قديمة مهترئة- له قدرة التحكم في كل ميكانزمات التسيير،إذا لم يكن وثيق الصلة بالأفكار النيّرة الخلاقة المتماشية مع العصر،فإن المآل هو الفشل الذريع،لأن التحكم والقدرة على ضبط سيرورة الأمور اقتصاديا لا يعني القدرة على تحقيق النجاح،وتوظيف كل الطاقات المتاحة مالية وبشرية من غير رؤية واضحة مستقبلية تأخذ في الحسبان التغيرات وما ينجر عنها من توابع،كالأيديولوجيات مثلا،وأعمار الناس وتفاوت المجتمع في ما بينه ثقافيا،فلن يأتي إلا بالهزال الاقتصادي من حيث أن المراد من ورائه تحقيق نتائج معتبرة،وبلوغ نسبة نمو مرتفعة.
لقد جربت الجزائر كل الطرق بغرض امتصاص الغضب الجماهيري،لكن كانت معظم التجارب مجرد ترقيعات زادت في تدهور الأوضاع اقتصاديا،واجتماعيا،كما دفعت بالجملة من المواطنين نحو الاستقالة من الحياة بقتل أنفسهم،وتطالعنا الصحف يوميا بحالات الانتحار التي أضحت ديدنا مجتمعيا يميز الحالة الجزائرية مقارنة ببعض دول الجوار،ولو لا الوازع الديني الذي يلعب دورا مهما في حياة هؤلاء الناس لكانت الطامة كبيرة،و لأنهى الجزائريون حياتهم دفعة واحدة.هذا على مستوى معين. أما عن ضيق العيش فيكفي إلقاء نظرة على جحافل البطالين وهم يتزاحمون على بوابات مديريات التشغيل من أجل وظيفة غير قارة مرتبها عند بعض المسؤولين في الجزائر هو بمثابة عشاء فردي فاخر لليلة في فندق متواضع،إذا لم أقل أنه يدفع في قنينة خمر من نوع الويسكي،والريكار-أكرمكم الله-.ويكاد قلبي يتقطع وأنا أرى تلك المهزلة التي تقدمها الحكومة لمثل هؤلاء البطالين الذين لا حيلة لهم سوى القبول ولو بعقد ما قبل التشغيل والحقيقة أن هذا العقد هو تسكين لنفوس هؤلاء البطالين الذين أنهكتهم السنون،وجعلتهم يرضخون إلى مثل هذه الوظائف التي فيها مساومات أخلاقية،كما هي فخار الحكومة بالإنجاز العظيم الذي تردده في كل مناسبة أمام مسمع ومرأى العالم،وهي الوظائف التي تدخل في إطار برنامج إنجاز مليون منصب شغل. فإذا كان منصب ما قبل التشغيل يعد منصبا لدى الحكومة،وهي تعلم أن الحقيقة ليست كذلك فبالله على هذه الحكومة أن ترينا نوع المناصب التي لا نعرفها.
نحن اليوم أمام خيار اقتصادي واحد ووحيد وقد فصلت فيه السلطة الفعلية على أنه خيار لا يمكن لأحد أن يراجعها فيه أي مخلوق،لكن في نفس الآن أمامنا خيار آخر وحيد أن نبحث عن أنبياء جدد للاقتصاد،يغيرون لنا المفاهيم الاقتصادية،ويدلوننا على أساليب التسيير المعقلن،ويعطوننا البوصلة الحقيقية التي بها نتمكن من الوصول إلى بر الأمان.فمعظم الوزراء والخبراء الذين تعاقبوا على ملء كرسي المسؤولية،لم يزيدوا في الأمور الاقتصادية إلا خرابا،والدليل ماثل أمام أعين كل الجزائريين بأن أسطوانة الإقلاع الاقتصادي،أصيبت للأسف بالشرخ،كما بح صوت المغنيين بالتنمية المستدامة،والراقصين على أنغام الليبرالية واقتصاد السوق.
لأنه من المستحيل أن نحقق الإقلاع الاقتصادي بأفكار محنطة رجعية،يعود أصلها إلى ماقبل أفكار آدم سميت،والنظام المشاعي ،ولهذا فنحن مطالبون بالبحث عن أنبياء جدد للاقتصاد،كما في السياسة،بعد أن جربنا التقنوقراطيين،ومن يقولون عن أنفسم أنهم خبراء في الإقتصاد. وإن لم نجدهم فمن الواجب ابتداعهم ،أما وان ننتظر التغيير الحكومي ليلد لنا أنبياء جدد لينقلونا النقلة النوعية نحو الحضارة ونكون كسائر بشر العالم المتحضر،فهذا الذي لن يحدث أبدا،حتى يلج الجمل في سم الخياط،وحتى يصبح البصل تفاحا.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

nashiri logo clear

دار ناشري للنشر الإلكتروني.
عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

 

اشترك في القائمة البريدية