"ربما كان من الأولى أن يسعى الرئيس الروسي " فلاديمير بوتين " لحل مشكلاته الداخلية، قبل أن يفكر في التدخل لحل مشكلات الآخرين".. قد تكون هذه هي العبارة ـ السهلة ـ التي تتبادر إلى ذهن البعض مباشرة، عند الحديث عن ما يسمى بـ "دور روسي جديد" في عملية التسوية (المتعثرة) في منطقة الشرق الأوسط؛ خاصة، عند ملاحظة المؤشرات العامة التي تشير إليها الزيارة الأخيرة للرئيس الروسي إلى المنطقة، خلال الأيام القليلة الماضية. فهذه الزيارة، التي تم افتتاحها عبر البوابة المصرية، وبما تضمنته من ملفات طرحت على جدول أعمالها، وأهمها: تطوير التعاون الثنائي بين مصر وروسيا، خاصة في المجال الاقتصادي، ناهيك عن الإمكانات الخاصة بدور روسي فعال في ما يخص تسوية الصراع بين "العرب.. وإسرائيل".. ( هذه الزيارة ) تطرح، ولا شك، التساؤل المتعلق باحتمالات وإمكانات العودة الروسية إلى منطقة الشرق الأوسط، وذلك عبر مجموعة من البوابات في المنطقة (إحداها مصر، قطعاً).
والواقع، أن اللذين يحاولون التقليل من أهمية الدور الروسي، أو إمكانية وجوده من الأساس، يعتمدون على وجهة نظر مفادها: أن روسيا لم تعد تملك القدرة على سد
"الفراغ" الأمريكي في ما يخص عملية تسوية الصراع بين "العرب.. وإسرائيل"، بل ويضيفون: أن الدور الروسي أصبح محل شكوك كثيرة من العرب والإسرائيليين، كليهما.
ويرى أصحاب هذا الاتجاه، أن العرب لم يعودوا يثقون في الراعي الروسي، بسبب تراجع نفوذه وتأثيره أولاً، وبسبب تخاذله في الدفاع عن المصالح العربية في العديد من القضايا، فضلاً عن قضيتي الشيشان، ومن قبلها كوسوفو، "الإسلاميتين"، هذا من جانب.. ومن جانب أخر، فإن الإسرائيليين يبادلون روسيا المشاعر نفسها، بسبب مواقف موسكو السابقة، تلك المساندة للعرب عموماً، وللفلسطينيين خوصاً.
رغم ذلك، فإن الأمور لا يمكن أن تقاس هكذا.. ولعل الأمر اللافت، هنا، هو الإصرار الروسي على ممارسة دور مهم كـ "قوة كبرى" على الساحة الدولة عامة، والإصرار على العودة مجدداً إلى الشرق الأوسط على وجه الخصوص.
إذ أن التحركات السياسية والدبلوماسية التي شهدتها الآونة الأخيرة، والتي يمكن وصفها بـ "الجرأة الروسية".. "الجرأة" السياسة، الخارجية، قياساً إلى الوضع الداخلي المتدهور، إلى حدود الأزمة.. إن هذه التحركات، تدفع إلى تساؤلات عدة، خاصة إذا لاحظنا المواقف الروسية المتتابعة ـ إضافة إلى موقفها من الأزمة العراقية ـ من التعاون "الروسي ـ الإيراني" في المجالات النووية "السلمية"، كمثال؛ ناهيك عن ما أثير مؤخراً حول الموقف الروسي من التوقيع على اتفاقية الحد من إنتاج الأسلحة الإستراتيجية مع الولايات المتحدة الأمريكية؛ وناهيك، أيضاً، عن مواقفها الرافض، بشدة، لمشروع "الدرع الصاروخي" الذي تتبناه إدارة بوش.
ولعل أهم التساؤلات التي يمكن أن تثور، هنا، هو: هل تتمكن روسيا مجدداً من "اختراق منطقة الشرق الأوسط"(؟)، وهل يمكن لها أن تلعب دوراً مهماً وحاسماً في حل الأزمات التي تموج بها المنطقة، و/أو المساهمة بشكل جدي في عملية التسوية السياسة للصراع بين "العرب.. وإسرائيل"(؟).
وفي محاولة الإجابة عن هذا التساؤل ذي الشعب "الثلاث"، تجدر الإشارة إلى ملاحظتين:
الملاحظة الأولى: تلك المتعلقة بالحديث الذي يتواتر كثيراً عن "النظام الدولي الجديد"، الذي يعتقد البعض أنه ولد في أعقاب التطورات التي لحقت بالاتحاد السوفيتي "السابق".. ويعتقد هؤلاء أن أهم سمات هذا النظام هو انفراد الولايات المتحدة بالهيمنة على النظام الدولي؛ فيما ينكر البعض الآخر وجود "نظام دولي جديد"، ويرون أنه مجرد امتداد لنظام القطبية "الثنائية" بصورة أخرى.
ويعتقد هذا الفريق أن المرحلة الراهنة هي مرحلة انتقالية، وأن شكل العلاقات الدولية مستقبلاً لن يتحدد قبل نهاية العقد الراهن (الأول) من القرن الحالي، على الأقل.
وبصرف النظر عن مدى صحة أي من التصورين، إلا أن السمة المشتركة عند هؤلاء وأولئك، من حيث المستوى الإدراكي لتطور العلاقات على الساحة الدولية، هي: عدم القدرة على إدخال روسيا (والصين، والهند) في مجمل التطورات المقبلة، وهو ما يبدو بوضوح من خلال العديد من المشاهد (السيناريوهات) التي طرحت بناء على هذين التصورين.
والأمر الواضح، بناء على ما يحدث، من جهة ، داخل الحدود الجغرافية للاتحاد السوفياتي المنهار، وبعد سنوات من انهياره، والمتمثل في المحاولات الروسية الدؤوبة في الهيمنة على الجمهوريات "السوفياتية" المستقلة.. وبناء على ما يحدث، من جهة أخرى، خارج هذه الحدود، والمتمثل في المعادلات "المصلحية" التي تتحكم في الخطوط العامة للسياسة الروسية الخارجية (البوسنة، ومن بعدها كوسوفو، ثم إشكايات بحر قزوين، والبرنامج النووي الإيراني، كأمثلة ).. نقول: الأمر الواضح، بناء على هذا وذاك، هو وجوب التعامل مع محاولات عودة روسيا إلى الساحة الدولية على أنه أمر جدي، وذو طابع استراتيجي وليس تاكتيكياً، لأي سبب أو أخر من تلك الأسباب الظاهرية الخادعة، التي يراهن عليها البعض هنا أو هناك.
الملاحظة الثانية: تلك المتعلقة بـ "قاعدة المصلحة" التي يمكن أن تدخل، على أساسها، روسيا إلى منطقة "الشرق الأوسط"، بمفهوم جديد ومغاير لذلك الذي كان سائداً أيام الحقبة السوفياتية، وهو ما يمكن أن يوفر لها العديد من الامتيازات..
فمن جهة، تعتبر منطقة "الشرق الأوسط" بالمفهوم التقليدي، ووفق اصطلاح "الفناء الخلفي"، من المناطق التي لا يمكن الاعتراف فيها بشرعية مصالح قوة دولية واحدة، وبالتالي فهي منطقة مفتوحة على مصراعيها للتنافس بين جميع القوى على قدم المساواة؛ وبحسب تعبير نائب وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، في مقال له بجريدة الحياة (27 أبريل 2005)، "أن الوضع في الشرق الأوسط، ومجريات الحدث السياسي المحاط بتعقيدات بالغة في هذه المنطقة، يمس روسيا في شكل مباشر. ومن الطبيعي أن الجمود وعدم التمكن من تسوية النزاعات العالقة واستمرار التناقضات الملتهبة بين الأطراف المختلفة... كل هذا لا يؤثر سلباً على الوضع الدولي وحسب، ولكنه يطال، أيضاً، في شكل مباشر، المصالح الوطنية لروسيا".
ومن جهة أخرى، فان روسيا ـ خلافاً للاتحاد السوفياتى السابق ـ يمكنها أن تقايض نفوذها (الدولي) ـ في حالة تنميته ـ بالمال وليس بالأيديولوجيا. إذ إنه من المعروف أن العديد من الخبراء الروس يراهنون على تعطش سوق منطقة الشرق الأوسط للسلاح، وإمكانية روسيا للدخول في هذا المضمار بشروط تفضيلية واضحة، من حيث الثمن المادي والسياسي، على غيرها من الدول الغربية المصدرة للسلاح؛ وهو ما ـ يمكن أن ـ يوفر للخزينة الروسية دخلاً كبيراً من "العملات"، يمكن أن يغنيها عن المفاوضات المعلنة مع الهيئات التمويلية الدولية، على شاكلة صندوق النقد والبنك الدوليين..
ولعل أهمية هذه الجهة تتبدى، بوضوح، إذا لاحظنا رؤية الإدارة الروسية الحالية، والتي تتمحور حول هدف محدد، هو: " إعادة مكانة الدولة إلى ما كانت عليه ولو بالقوة، وأن تقود الدولة الاقتصاد وتنظم السوق، وليس العكس".
ومن جهة ثالثة، فإن روسيا ـ في ما يبدو ـ يمكنها اللعب على وتر "المخاوف" الإسرائيلية، التي تتمحور حول إمكانية استغلال روسيا لورقة المهاجرين اليهود مجدداً، وأن تمنع هذه الهجرة لقاء حصولها على حصة من المشتريات العربية للسلاح، أو أن تساوم "الغرب"، وإسرائيل، للإفراج عنها، في مقابل المساعدات المالية الضخمة، أو على الأقل: أن تستخدم النفوذ اليهودي في الدول الغربية لصالح منح الروس بعض التسهيلات الاقتصادية، أو لدفع ثمن مباشر لهجرة اليهود إلى إسرائيل.
وهكذا، فإن هاتين الملاحظتين تقدمان الحد الأدنى من ملامح إمكانية العودة الروسية للمسرح الدولي بصفة عامة، ولمنطقة الشرق الأوسط على وجه الخصوص.
وإذا كان من الصحيح أن "العلاقات الاقتصادية" هي، راهناً، جواز المرور الروسي إلى المنطقة العربية، ومنطقة الشرق الأوسط عموماً.. وإذا كان من الصحيح، أيضاً، أن خط الاتصال "الروسي ـ السوري"، الظاهر حيناً و"المختفي" في أحايين كثيرة، يأتي ضمن أهم خطوط الاتصال التي يمكن أن تعتمد عليها العودة الروسية إلى المنطقة: إذا أنه، وإضافة إلى ما يحققه في المنظور السوري من تخفيف للضغوط الأمريكية في ما يخص عوائد "الخروج" السوري من لبنان، ناهيك عن ملفات التسوية مع إسرائيل؛ يحقق في المنظور الروسي الوقوف على خط التماس مع مستقبل المفاوضات بين "العرب.. وإسرائيل"، بما يعنيه ذلك من إمكانية المشاركة في مستقبل واحدة من أهم المناطق الحيوية في العالم (لنا أن نلاحظ، هنا، مبادرة الرئيس الروسي بخصوص "المؤتمر الدولي حول السلام في الشرق الأوسط"، الذي وافقت عليه مصر، والفلسطينيين، وتحفظت عليه إسرائيل).
إذا كان ذلك صحيحاً، فإنه يكون من الصحيح، كذلك، القول: أن روسيا، التي كانت تهيمن على الإمبراطورية السوفياتية في أوج قوتها، لم تستطع أن تلعب دوراً مؤثراً وكبيراً في المنطقة، ولا في الصراع بين "العرب.. وإسرائيل"، لأسباب كثيرة، ربما أهمها: قوة المنافسة الأمريكية داخل المنطقة، وهو الأمر الذي مايزال قائماً، لما تشكله هذه المنطقة من أهمية للمصالح الأمريكية، فضلاً عن أن البلدان العربية لم تستطع استغلال هامش المناورة المتاح، نتيجة تنافس القوى الكبرى على المصالح في "الشرق الأوسط"، وبالشكل الملائم، خاصة خلال العقدين الآخرين.. وهي أمور كلها تصب في صالح احتمال عدم تمكن روسيا من لعب دور "بارز" في المنطقة..
بل إن أقصى ما تستطيع روسيا أن تفعله، في إطار هذا الاحتمال، هو أن تساوم بتلك الأمور السابقة للحصول على مكاسب في اتجاهات أو أماكن أخرى.
وبعد.. يتبقى أن قولنا الأخير هذا، يظل مرتبطاً بعلاقة طردية مع كل من خطي الاتصال "الروسي ـ المصري" ، و"الروسي ـ السوري".. إذ كلما زادت قوة خطوط الاتصال هذه، كأهم خطوط الاتصال المؤثرة في قوة عودة روسيا إلى المنطقة، كلما ذادت قوة هذه الأخيرة.. ولعل هذا ما يتبدى بوضوح إذا أضفنا إليه "البوابة الخليجية"، كـ "خط اتصال" مضاف إلى سابقيه.
لكن يظل التساؤل، الذي سوف نترك إجابته للتطورات التي سوف تشهدها المنطقة خلال السنوات القليلة المقبلة، هو: هل يستطيع العرب استغلال هامش المناورة المتاحة، عبر احتمال عودة روسيا إلى الساحة الدولية، لمواجهة التعنت الإسرائيلي ولتخفيف الضغط الأمريكي(؟!).