إنه " عالم " عربي هذا الذي نعيش فيه اليوم أو نعايشه، نسكنه او نساكنه، نعانيه أو نتمتع به، نرفضه أو نرتضيه. إنه " عالم " وليس وطنا بالمعنى القومي أو امة بالمعنى الديني.. إنه عالم فضفاض، فسيح، متنوع، متعدّد، متغيّر، متبدّل، متجمّد، متحرّك، متخلّف، متطوّر، متديّن، متحرّر، فقير حتى الإدقاع، مثرٍ حتى الإشباع، يمتد فيه الماضي إلى الحاضر والحاضر إلى المستقبل. إنه عالـم في حال مخاض مترع بالمتناقضات. يغلي بغرائز ورغبات، يغصّ بحاجات وضرورات، يضجّ بأفكار وتطلعات، ويمور بنزعات وحركات.
إنه مخاض مزمن. بدأ مع إنهيار الإمبراطورية العثمانية، بطيئاً متباطئاً ومنشغلاً بمسألة استعادة الخلافـة من بني عثمان وإعادة بنائها في بني قحطان وعدنان. تَسَارع مع إستفاقة متأخرة على إستعمار أوروبي قاسٍ، ينشر نقاط رسوٍ في المغرب والمشرق ووادي النيل، ثم يتجذّر فيها ويتوسع ويمتد باسطًا سيطرته على الشعوب والموارد والثروات. بعدها يضرب ضربته في فلسطين مغتصباً أرضها مشردا شعبها. يتنادى القوم، هنا وهناك وهنالك، إلى حمل السلاح دفاعاً عن الأرض والعرض، فإذا بهم يصبحون أسرى حَمَلة السلاح من الضباط وأهل الرباط. يستولون على السلطة بإسم القضية، ويجعلون كل شيء من اجل إحتكار السلطة مجرد مطيّة. يشنّون على بني قومهم وجيرإنهم حروباً ظالمة، وينهزمون أمام أعدائهم في حروب غير متكافئة. حتى اذا نال تسلّط الحكام وحصار الأعداء من الشعوب وأرهقها ولوى إرادتها وأحبطها إنقضّ " الشيطان الاكبر " على العراق وبسط عليه سيطرته أو كاد، محاكيا في حملته فعلة الشيطان الصهيوني الأصغر في فلسطين السليب.
تتفجر اليوم في العراق وفلسطين كما في لبنان إرادة المقاومة. تتخذ أشكالاً عدّة. بعضها يجيزها " العالم المتحضّر " على مضض. بعضها الآخر يدمغها بميسم الإرهاب بلا هوادة ويتفوّق في قمعها على الإرهابيين في فنون الترهيب والتخريب والقتل والإبادة. في هذه المواجهة القاسية تشن أمريكا وإسرائيل على المقاومة وجماعات العنف الأعمى حرباً عالمية شاملة، تستخدمُ فيها الجيوشُ النظامية، سراً أو علناً، أكثرَ أدوات القتل فعالية ووحشية. ومع ذلك فإن أمريكا تطالب الحكام والمحكومين العرب بان يتضامنوا معها في حربها الشاملة، وبأن يدينوا أساليب المقاومة والإرهابيين في القتال كونها – في رأي أمريكا – منافية لقوانين الحرب ولحقوق الإنسان.
يردّ المقاومون وجماعات العنف الأعمى الكيل كيلين. يردّون في الميدان ويردّون بمنطق حقوق الإنسان. في الميدان يجيزون لأنفسهم الردّ على العدو بجميع الوسائل المتاحة بلا هوادة. يقولون إن ما لديهم من وسائل الحرب أضعف بكثير مما لدى العدو مـن وسائل بإستثناء السلاح الأخير وهو الإنسان. لذلك يلجأون إلى الإنسان ، وقد تساوت من فرط اليأس في نظره الحياة والممات، فيضربون به في الزمان على غير خط التوقعات، وفي المكان يصوبون على الهدف الأغلى وهو إنسإنهم المخدوع والمساق إلى حروب لا ناقة له فيها ولا جمل. وإذْ تتعاظم أرقام الخسائر البشرية وتنتقل أخبارها المؤلمة إلى عمق مجتمع العدو، كما في حرب فيتنام، ينتفض إنسإنهم غير المخدوع والبعيد عن الميدان، ينتفض على حكومته الظالمة ويطلب، فردا وجماعة، حقن الدماء وتخليص الشبان من أتون حربٍ ثبت إنها من دون مسوّغات على الإطلاق.
أما منطق المقاومين وجماعات العنف الأعمى في الردّ على " منطق " أهل الحرب الأمريكيين فهو إستخلاص دروس الحروب العنصرية التي شنها الأوروبيون والأمريكيون على الشعوب الآمنة. هل إلتزم الأوروبيون المهاجرون إلى أمريكا في حروب الابادة التي شنوها على الهنود الحمر، أبناء القارة الأمريكية الأصليين، الأخلاق والقيم الدينية التي تجلّت لاحقاً في إتفاقات جنيف ؟ هل إلتزمها الأوروبيون في حربهم على أبناء القارة الاوسترالية الأصليين ؟ إن الحق في الحياة هو أول وأعلى وأغلى حقوق الإنسان، فهل يجوز أن يُطلب من الإنسان المعرّض لخطر الابادة أن يحترم في دفاعه عن نفسه، بل عن الحياة، قواعد الحرب التي يحددها عدوه ؟ هل بلغ حكام أمريكا من الجنون حدا يظنّون معه إنه بمقدروهم إقناع الناس المعرّضين للإبادة بإن ينتحروا كرمى لعيونهم او ان يتقبلّوا القتل بدمٍ بارد حرصا منهم على احترام قواعد الحرب " المتحضرة " ولينعموا بموت رحيم ؟
من موقع الإيمان العميق الثابت بحقوق الانسان غير القابلة للتصرف، وفي مقدمها الحق في الحياة، نرفض وندين كل حرب تُستخدم فيها أدوات وفنون وحشية منافية لإتقافات جنيف، ايا كان الفاعل والمفعول به. لكننا نرفض وندين بالقوة نفسها المنطق السخيف بل المنحـرف والجنوني القائل بوجوب إلتزام المعتدى عليه الضعيف، المقهـور والمعرّض للإبادة قواعـد الحرب التي يضعـها المعتدي القوي، المتسلط والمصمم علنا وإستباقا على قتل المعتدى عليه، المناضل من الناهض للدفاع عن نفسه، أو المكافح من أجل تحرير بلاده، او الساعي إلى تأمين قوت عياله.
حتى عندما فتح الأوروبيون المهاجرون القارة الأمريكية بالقوة والعنف، وجدوا أن الأرض الجديدة والحياة الرغيدة اللتين ينشدإنها تستأهلان منهم تضحيات عظيمة، فما بخلوا بأرواحهم – وهي الغالية عليهم – في سبيل تحقيق مبتغاهم. فهل كثير على العرب في فلسطين والعراق ولبنان وفي كل مكان، أن يسترخصوا أرواحهم – وقد أضحت السلاح الأخير والأفعل – دفاعا عن حياتهم وأرضهم وحقوقهم ومستقبلهم ؟
إن العرب، مسلمين ومسيحيين، متدينين وغير متدينين، يعيشون أو يعايشون اليوم عالمهم الفضفاض، المتنوع، المتجمد، المتحرك، الفقير، المثري، المتخلف والمتطور في آن مخاضا عسيرا وطويلاً ومترعا بشتى الاحتمالات، فلا يجوز أن تغيب في حمأته عن قادة الرأي والفعل في صفوفهم تحديات ثلاثة تتطلب إستجابات ومواجهات ثلاثاً :
التحدي الأول: عمق التدخل الأجنبي – الأمريكي خصوصا – وتداخله بنسيج أهل القرار الرسمي في طول القارة العربية وعرضها، وسعيه الدؤوب إلى إعادة تشكيلها سياسيا وثقافيا على نحوٍ يؤمن للقطب الأمريكي بين العرب، حكاما ومحكومين، استتباعا كاملاً ومديداً. ذلك يتطلب من جانبنا إستجابة ومواجهة عميقتين وسريعتين غايتهما توليد إرادة التصدي والمقاومة والفعل في منظور أخلاقي وقومي وإنساني. إنها إرادة التغيّر بحرية ومن أجل الحرية كونها قيمة مرادفة للحياة ذاتها.
التحدي الثاني: نزوع العدو المحتل في فلسطين والعراق ولبنان، ازاء تزايد فعل المقاومة، الى محاولة تنفيس حدة الصراع بحمل أهل القرار الرسمي على عقد تسويات معجلّة غايتها :
• التخلي عن الحقوق غير القابلة للتصرف في فلسطين في سياق تطبيق "خريطة الطريق " وما تنطوي عليه من وعد وهمي بدويلة قابلة للحياة.
• محاولة تعطيل المقاومة في العراق من خلال تأهيل وتفعيل قوات مسلحة عراقية قادرة على حماية نظام سياسي تابع وبالتالي تمكين قوات الاحتلال من الانسحاب بالسرعة الممكنة.
• تجريد المقاومة الإسلامية (حزب الله ) في لبنان من السلاح لحرمان لبنان وسوريا معا من قوة رادعة مؤذية لأسرائيل وبالتالي تسهيل إستتباع نظام الحكم في كلا البلدين.
إن استجابة هذا التحدي ومواجهته في البلدان الثلاثة تكون بتصعيد المقاومة الميدانية وتوسيع الاشتباك مع العدو، وبتصعيد المقاومة السياسية من طريق إضطلاع القواعد الشعبية ومؤسسات المجتمع المدني بنضالات هادفة كما حدث في القدس مؤخرا دفاعا عن حرمها القدسي الشريف، وفي المدن العراقية من تظاهرات ضد الاحتلال في ذكرى سقوط بغداد، وفي لبنان من تظاهرات صاخبة في محيط السفارة الأمريكية.
التحدي الثالث: حملة أمريكا الدعاوية من اجل نشر الديمقراطية في إرجـاء القارة العربية والهادفة إلى حمل قادة النظم السياسية على تجميل صورتهم لدى الناس لتمكينهم من إعادة إنتاج أنظمتهم البالية والتابعة من خلال :
• توسيع فرص التعبير عن الرأي.
• الحدّ من مظاهر توريث السلطة او تمديد ولاية الحكام.
• تشجيع الانفتاح على دول أمريكا وأوروبا اقتصاديا وثقافيا وتعزيز النمط الاستهلاكي في الحياة.
إن إستجابة هذا التحدي ومواجهته تكون بإقتبال الديمقراطيـــة وممارستها
وإغتنام الحملة الأمريكية الدعاوية لنشرها من اجل الضغط على الحكام في جميع أرجاء القارة العربية وحملهم على إطلاق الحريات العامة وتوفير نظم انتخابية ديمقراطية تكفل إجراء انتخابات حرة ونزيهة. كما يقتضي ان تولي القوى الحية اهتماما مركّزا على بناء مؤسسات المجتمع المدني والانخراط فيها وتوظيفها في نضال موصول من اجل الديمقراطية والتنمية والعدالة.
العرب في مخاض عسير. ليكن أسلوبنا في إستجابة تحدياته الثلاثة ومواجهتها
منهجا مقاوما وديمقراطيا وتنموياً.