أصبح التوصل إلى تعريف مجمع عليه دوليا لمصطلح " الإرهاب " أكثر إلحاحا من أي وقت مضى ، فأحداث الحادي عشر من سبتمبر أثارت المخاوف بقدر هائل في الغرب ، ولكونه مركز الثقل الأكبر في عالم اليوم فإن تحول مخاوفه إلى قضية ذات ترتيب متقدم على جدول أعمال المؤسسات الدولية أمر مفهوم . وعلى مدى التاريخ لم يكن العنف السياسي مجرما تجريما قاطعا بل كان يخضع للاستخدام السياسي فكان هناك دائما اختلاف حول مشروعية هذا العنف . وحتى انهيار نظام القطبين الذي ظل سائدا طوال النصف الثاني من القرن العشرين كان كل منهما يستخدم الطبيعة الخلافية لمفهوم " الإرهاب " ورقة للضغط على مصالح الطرف الآخر في مكان أو آخر من العالم بأن يتبنى جماعة - أو جماعات - مسلحة موالية / مناهضة . وإذا كانت تلك إطلالة شديدة الاختصار على ملابسات السجال المحتدم في العالم حول الظاهرة ، فإن الالتباسات يجب الوقوف أمامها طويلا ، وطويلا جدا ...

وأول الالتباسات محاولة بعض حكومات الدول العربية أو الإسلامية اختصار الأمر في صورة أن الغرب يريد إجبار العالم على تعريف للإرهاب يصنف المقاومة الفلسطينية واللبنانية بوصفها إرهابا ، وهي كلمة حق يراد بها باطل ، فالمفهوم الذي يتبناه الغرب للإرهاب يعني هذا بالفعل لكن التركيز على هذه القضية " كسارة جليد " تستخدمها بعض الدول العربية للإفلات من مأزق وضع إطار أخلاقي عام لتعريف الإرهاب . والتركيز على تصنيف التنظيمات التي تقاوم المشروع الصهيوني محاولة لصرف الأنظار عن حقيقة أن العنف السياسي الذي شهدته بعض الأقطار العربية ، وبخاصة خلال عقد التسعينات لم تكن له صلة من قريب أو من بعيد بالمشروع الصهيوني .

بل إن مختلف فصائل الحركة الوطنية في مصر – على سبيل المثال - كانت تتساءل دائما : " لماذا لا يتوجه رصاص العنف السياسي الإسلامي إلى استهداف الكيان الصهيوني بدلا من استهداف النظام الحاكم ؟ " . فلم تكن القضية الفلسطينية سبب نشوء الظاهرة ولم تستطع الأنظمة التي واجهت المعارضة الأصولية المسلحة أن تبرهن على أن الظاهرة مستوردة أو جزء من سياق دولي أكبر ، وهو ما تحاول هذه الأنظمة إقناع العالم به الآن ، لا من خلال البرهنة بل من خلال الإلحاح والتلويح للغرب بإمكان الدخول في تحالف دولي للقضاء على التنظيمات التي تهدد أمن الكيان الصهيوني ، مقابل تسوية قابلة للترويج جماهيريا – بغض النظر عن عدالتها – وتعاون غربي مع هذه الأنظمة لمواجهة الجماعات الأصولية المسلحة التي تهدد أمن هذه الدول ، وأول مظاهر التعاون التوقف عن الحديث عن حقوق الإنسان وما ترتكبه هذه الدول من " تجاوزات " في سياق " مكافحة الإرهاب " !!

وربما كان من المشاهد العربية المضحكة المبكية مشهد سياسيين ومثقفين عرب بالغوا عمدا في الحديث عن " المحاكم العسكرية " التي قرر بوش أن يمثل أمامها المتهمون بالانتماء لتنظيم القاعدة ، وهي مبالغة لم تخل من فرحة غير معلنة وغمز لمواقف أمريكية سابقة بشأن حقوق الإنسان في دول عربية وإسلامية . وإذا كانت الحرية كقيمة " لا بواكي لها " لا في الشرق ولا في الغرب ، فلماذا لا نتوقف أمام حالة حقوق الإنسان في الولايات المتحدة إلا في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر ؟

وإذا كانت حقيقة موقف النظام الرسمي العربي إجمالا التنكر لحقوق الإنسان فلماذا التمحك في تفسيرات تآمرية تبدأ بالتركيز المبالغ فيه على الموقف ضرورة التفرقة بين " المقاومة المشروعة " و " الإرهاب " ، وتنتهي عند الدعوة إلى مخاصمة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي لا يؤدي تطبيقه إلا لإباحة " الشذوذ الجنسي " ، الأمر الذي يضفي صبغة جهادية زائفة على موقف الدول العربية والإسلامية التي ترفع لواء الدفاع عن الشريعة . ولو كنا صادقين مع أنفسنا لتبنت هذه الدول " الإعلان الإسلامي العالمي لحقوق الإنسان " ، فالتصور الغربي لحقوق الإنسان لا يحولها إلى " ثمرة محرمة " !!

ومن المؤكد أن منصفا أيا كان موقفه السياسي أو انتماؤه الفكري لا يمكن أن يقبل الموقف الغربي من المقاومة المسلحة داخل الكيان الصهيوني وخارجه ، وفي مقدمتها العمليات الاستشهادية ، لكن خوض معركة لأجل الحفاظ على حق مقاومة الاحتلال ليس أكثر قداسة من خوض معركة لأجل الحفاظ على حق الشعوب في مقاومة الاستبداد السياسي ، فكلاهما يفتقر إلى المشروعية .

وإذا كانت المنطقة العربية قد تمكنت خلال العقود القليلة الماضية من التخلص من الاحتلال العسكري المباشر فإنها لم تشعر بطعم الاستقلال السياسي حتى الآن بسبب الاستبداد فالاستبداد كالاحتلال ، والموقف الرسمي العربي القائم على التفرقة بينهما رغم كونهما كلاهما يفتقران للمشروعية ، واحد من المبررات التي تدفع الغرب لرفض التفرقة بين المقاومة والإرهاب ، فإذا كان من حق الضعيف ( نحن ) أن يتصرف بشكل انتقائي فمن المؤكد أن فعله يضفي المزيد من المشروعية على موقف القوي ( الغرب ) عندما يستثني الكيان الصهيوني من حديثه عن الديمقراطية وحقوق الإنسان !!.

ولا يعني هذا بأي حال أن الغرب يتصرف بشكل مبدئي في قضية حقوق الإنسان ، لكن تواطؤه على حقوق الفلسطينيين ليس منفصلا عن تواطؤه على حقوق شعوب أخرى يحكمها حلفاء له يرتكبون جرائم قتل عمد وقتل تحت التعذيب ، ويعتقلون الآلاف من معارضيهم السياسيين ويحرمونهم من أبسط حقوقهم بتقديمهم للمحاكمة أمام محاكم عسكرية ، وهم يرون هذه الممارسات حماية لأنظمتهم السياسية ، وبالتالي يعتبرونها أمرا مشروعا . وهذه الممارسات لا تشكل خرقا للأعراف الدولية ومواثيق حقوق الإنسان وحسب ، بل تعد خرقا لقوانين هذه البلاد ودساتيرها ، فهل هذه الدساتير والقوانين الوطنية فرضها الغرب ؟ وكيف نطالب العالم باحترام أية شرعية دولية إذا كانت دساتيرنا وقوانيننا لا تحترم ؟
إن جرائم الاستبداد السياسي العربي – في نظر الغرب - تبرر جرائم الاحتلال الصهيوني ، وهذه الالتباسات هي المشكلة الحقيقية لا الحرص على حق المقاومة ولا على أحكام الشريعة الإسلامية .

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية