تشنّ أميركا ، منذ أحداث 11/9/2001 ، حرباً على الإرهاب. الإرهاب في مفهوم جورج بوش له معانٍ عدّة . فهو ، حينا ، العنف وأصحابه ، وحينا آخر المقاومة وأنصارها ، وقد يعني في الغالب الإسلام والمسلمين أعداء السياسة الأميركية وممارساتها الظالمة إزاء الفلسطينيين والعراقيين وشعوب أخــــرى في " الشرق الأوسط الكبير ". ثمة طريقتان من الحرب على الإرهاب : واحدة ساخنة وأخرى ناعمة. الحرب الساخنة أداتها النار والدمار حتى حدود السحق والإبادة . الحرب الناعمة أداتها الحوار وتبادل الأفكار وديبلوماسية الكواليس.
يؤمّل جنرالات الحرب الأميركية في العراق بأن تنحسر المقاومة قبل آخر السنة الجارية . غير أن وقائع الحرب تشير إلى العكس . فقد فجّر المقاومون ، بحسب صحيفة " نيويورك تايمز " ، 135 سيارة مفخخة في خلال الشهر الماضي ، أي أكثر من 69 سيارة من العـدد الذي جرى تفجيره في شهر آذار / مارس الماضي . اللافت أن أكثر من 50 في المئة من السيارات المتفجرة تمّت بشكل عمليات انتحارية .
ما دلالة هذه الظاهرة ؟
دلالتها ان " عدوى " العمليات الإنتحارية قد إنتقلت إلى العراقيين . ما عادت المقاومة بحاجة إلى " إستيراد " استشهاديين من الخارج . أصبح بإمكانها أن تعتمد على " السـوق " المحلية . معنى ذلك انه سيكون في مقدورها إدامة القتال إلى أمد بعيد . هذا ما استنتجه الجنرال ستيفن جونسون ، قائد قوات " المارينز " في العراق : " ما لم ينخرط المتمردون في العملية السياسية فإننا سنواصل رؤية هذه المشاهد " .
قبله كان الجنرال جون مايرز ، رئيس هيئة أركان الجيوش الأميركية ، قد شكا من إتساع الإلتزامات العسكرية لأميركا على مستوى العالم كله وصعوبة تأمين الاعداد اللازمة من الجنود للوفاء بهذه الإلتزامات . هذا الكلام فسره دارســــو " الحرب على الإرهاب " بأنه دعوة ضمنية الى سلوك طريق السياسة والديبلوماسية مع المقاومة العراقية بغية التوصل إلى تسوية .
إدارة بوش لم تنتظر نصيحة الجنرالين مايرز وجونسون لتسلك طريق السياسة مع المقاومة . لقد باشرت ذلك منذ أشهر من دون أن تحقق نتائج محسوسة . فالمقاومة ردّت على عمليات الحرب الناعمة ، عبر " رابطة علماء المسلمين " ، بدعوة إدارة بوش إلى وضع جدول زمني للإنسحاب قبل آخـر العام الحالي .
الحقيقة أن لجؤ واشنطن إلى خيار الحرب الناعمة لا يقتصر على العراق . لقد بات سياسة معتمدة في التعامل مع المقاومين والإسلاميين في غير مكان. لعله الآن جوهر إستراتيجيا إعادة تشكيل دول المنطقة التي اعتمدتها إدارة بوش بعد أحداث 9/11 .
إنها سياسة احتواء القوى الإسلامية بدلا من مواجهتها ، ومحاورتها لتسهيل وصولها إلى السلطة ، ومراعاتها تمهيداً لرعايتها على غرار ما حدث في تركيا مع حزب رجب طيب اردوغان الإسلامي المعتدل .
غير أن مراعاة المقاومين الإسلاميين ورعايتهم كحاكمين ، في مفهوم بوش ، لا تعني قبول المس بجوهر الأنظمة الحاكمة . بالعكس ، يقتضي أن تبقى الأنظمة على حالها في توجهاتها وتحالفاتها وعلاقاتها الحميمة مع أميركا وربما مع إسرائيل أيضا. ما يهدف إليه الأميركيون هو تحقيق " انقلاب ابيض " ، أي تبديل في واجهات الأنظمة وليس في مضمونها. انه أشبه ما يكون بتبديل الأفعى جلدها ، على ما ذكره احد السفراء العرب في واشنطن !
سياسة مساعدة الأفعى على تبديل جلدها بدأ تنفيذها منذ مدة في فلسطين ومصر وسوريا . انها تتبدى أكثر ما يكون في دعوة الأنظمة الحاكمة إلى احترام الحدّ الأدنى من شرعة حقوق الإنسان ، خصوصا حرية التعبير ، ومحاورة المعارضة ، وتشجيعها على خوض الإنتخابات ، وتسهيل مراقبتها من قبل مراقبين دوليين ومنظمات غير حكومية .
الحوار بين أميركـا والإسلاميين لا يتمّ مباشرة ، بل عبر منظمات أهلية أميركية لها علاقـات وتجارب ومودات مع جمعيات وفعاليات في المنطقة منذ أمد بعيد . هكذا جرت الإتصـالات قبل أن تظهر اتفاقات اوسلو – إلى العلن ، وهكذا تجري الآن .
بعض المنظمات الإسلامية ينكر الانخراط في حوارات مع واشنطن بل ينفيها بشدة ، شأن " الأخوان المسلمين " في مصر و " حماس " في فلسطين والمقاومة في العراق وحزب الله في لبنان . الحقيقة انها جميعا صادقة في الإنكار والنفي لأن الحوارات تتمّ مع منظمات غير حكومية وليس مع الإدارة الأميركية.
حكومات مصر وفلسطين والعراق ولبنان أقل حساسية من المنظمات الإسلامية في الإقرار بوجود اتصالات وحوارات بين المنظمات الاسلامية وأميركا . ربما لأن بعضها يرحب بهذه الحوارات ، شأن السلطة الفلسطينية والحكومة العراقية ، اللتين تريدان لها ان تتوصل إلى نتائج ايجابية . لكن البعض الآخر ، شأن الحكومة المصرية ، لا يبدو سعيدا لاستمرارها مخافة أن تنتهي إلى نتائج تكون على حساب الحزب الحاكم . وقد تردد في واشنطن أن أوساطا قريبة من الحكومة المصرية تحرص على إيهام المسؤولين الأميركيين بأن " الأخوان المسلمين " هم وراء عمليات التفجير التي جرت مؤخرا في منطقة الأزهر ثم في ميدان التحرير في القاهرة .
الأهم من معرفة ما إذا كان الحوار بين الأميركيين والإسلاميين واقعة أو شائعة هو دلالاتها السياسية والاستراتيجية ، وأبرزها ثلاث :
الأولى ، ان " الـحرب على الإرهاب " أتعبت أميركا سياسيا واقتصاديا وعسكريا ، وان إدارة بوش باتت مقتنعة بأن " الحل الأمني " ليس مجدياً ، وانه يقتضي إيجاد مخرج سياسي للصراع حقنا للدماء وتجنبا لمزيد من الخسائر المالية والمادية .
الثانية ، ان بعض المنظمات الإسلامية ، شأن " الأخوان المسلمين " ، لا ترى غضاضة في التواصل مع أميركا إذا كان من شأن ذلك تسهيل وصول الإسلاميين إلى السلطة على شروطهم أو على معظمها .
الثالثة ، ان منظمات المقاومة في فلسطين والعراق ( وربما في لبنان أيضا ) تجد نفسها على مفترق طرق .. فهي مطالَبة بإتخاذ قرار إما بالإنخراط في معمعة الإتصالات والحوارات بحثا عن مخرج من الحرب ، أو بالاستمرار في الصمود والقتال لإكراه الأميركيين على الخروج من الصراع مهزومين ، كما حدث لهم في فيتنام . القرار ، في هذا الإطار ، صعب ومعقد ويتوقف على جملة اعتبارت ليس اقلها قدرة أميركا على الاحتمال نفسيا وسياسيا والزمن المقدّر لإنكسار تصميمها على مواصلة الحرب . ثم ان منظمات المقاومة في فلسطين والعراق مطالبة أيضا بتقدير قدرتها هي على الصمود والإحتمال في وجه آلة الحرب الصهيونية والأمريكية ، لا سيما انها لا تحظى بأي دعم من قوى خارجية بل تعتمد على مواردها الذاتية ودعم شعبها الفقير بالدرجة الأولى.
غير أنه تقتضي الإشارة إلى حقيقة تكشّفت عنها حروب التحرير الشعبية في القرن الماضي .. انها غلبة موازين الارادات على موازين القوى في هذه الحروب. فصلابة الإرادة والتصميم على القتال أقوى من المدافع والدبابات والطائرات . لولا غلبة الدم على السيف لما قيض لثورة فيتنام وثورة الجزائر وثورة إيران والمقاومة في لبنان أن تنفجر وتنتصر.