تحفل الحياة بنماذج بشرية عجيبة الافعال متناقضة الاحوال، فكثيرا ما يغرنا من يحسن الحديث عن الفروسية وشرائطها إما بالكتابة على صفحات الورق او بالخطابة على صهوات المنابر، وربما صورت لك روعة بيانه الفروسي انه حري حقا بشرائط الفرسان وجدير بأن يكون واحدا منهم وربما مقدّمهم الاول، ولكن تبقى ساحة السبق وميدان المعركة المحك الحقيقي الذي يثبت على مدارجه الفرسان الاصيلون بينما يزلّ عن صهواته الدخلاء عند اول كرّة وقبل اتمام الشوط الاول من اشواطه الطوال! لعل ابرز امارات هؤلاء الفرسان الورقيين تلك الحماسة المفرطة التي يصطبغ بها خطابهم وتنضج من تصريحاتهم، ولأنهم لا يملكون سبيلا الى اثبات بطولاتهم الموهومة إلا بالكلام المبهرج والصراخ المزعج فلا عجب اذن ان يشتطوا كثيرا في تصريحاتهم ويذهبوا في المبالغة والتضخيم كل مذهب، ليتمكنوا بذلك من خداع السذج واستغفال البسطاء، وكم قرأنا في المساجلات السياسية من تصريحات طنانة من قبيل (هذا المشروع لن يمر إلا على جثتي!) ثم تبين لنا ان الامور تجري على ارض الواقع على النقيض من ذلك، وان صاحب هذا التصريح قد تناسى ما قال معتقدا ان الناس سينسون كذلك!
وكم سمعنا في معركة الانتخابات البرلمانية من وعود ورعود يطلقها الفرسان المرشحون في كل باب وفن، حتى اذا اعتلوا صهوة المقعد البرلماني تنصلوا مما قالوا كانسلال الشعرة من العجين، وانقلبوا من الضد الى الضد، واقبل هؤلاء الفرسان على تحقيق مصالحهم الذاتية ومصالح من يلتحف بعباءتهم، فلم يكن الحديث عن انصاف الطبقة المسحوقة وتحقيق آمال ذوي الدخل المحدود المهدود سوى جسر يعبرون عليه الى عالم الوجاهة ودنيا السلطة والنفوذ، وكم هو مضحك ومبك ان تجد الفرسان الذين تعهدوا بمحاربة ذوي الدماء الزرقاء من المتنفذين ينأون امام ريح الضغوط ونسيم الاغراءات، ويتحولون الى انصار لهؤلاء (الزرقاويين) بعد ان تعهدوا من قبل بتحجيم نفوذهم وكبح جماحهم!
واذا كانت المتاجرة بهموم المسحوقين تمثل فرس السباق المفضل لهؤلاء الفرسان، فإن ثمة فرسا آخر يجيد ركوبه فريق منهم، إلا وهو فرس الشعارات الدينية، فكثيرا ما كانت الفتاوى الشرعية والحماسة الاسلامية تستغل ابشع استغلال من هؤلاء الفرسان الذين يعرفون مع الأسف من اين تؤكل الكتف، وامام نداء الدين وصوت الفضيلة يندفع كثيرون نحو تأييد هذا الفارس عاقدين عليه من الآمال الكثير الكثير، ولكن تتكشف صلعة الحقائق حين تنقلب الامور وتستبدل الفتاوى الجديدة بالفتاوى القديمة بين عشية وضحاها لتضفي على التطور الجذري والتحول المفاجئ في المواقف شيئا من الشرعية المفتقدة!
ترى ما الوسيلة التي نستطيع بها اسقاط الفرسان الورقيين قبل ان يتمكنوا من خداعنا من جديد بلحون القول وسحر البيان؟ لقد كشفت لنا الأيام ان ارباب الحماسة المفرطة واصحاب التصريحات العنترية والخطب النارية هم اكثر الناس تقلبا في مواقفهم واسرعهم تحولا عن مبادئهم، وحتى لا نقع في فخوخ المتلونين من جديد فلا مناص من جعل اهل الحكمة والروية محط اختيارنا، ربما لا يملكون من البيان والنعيق عشر ما يملكه اولئك الخطباء الحماسيون لكنهم بالتأكيد يملكون من الاناة والرزانة ما يمنعهم من تقلبات اولئك البهلوانيين من فرسان ورق (السوليفان)!