الأخ العزيز خالد مشعل
اسمح لي أن أخاطب فيك "صاحب القضية" الذي أراه ويراه معظم المصريين رمزا مشرفا لـقضية عادلة تحتاج – بجانب كفاءة الدفاع عنها – أن تتوفر في وسائل هذا الدفاع مشروعية أخلاقية من مسوغاتها أن يحميها أصحابها من ألاعيب الاستغلال السياسي المتسترة وراء القضايا النبيلة لتحقيق مستهدفات "غير نبيلة" بالمرة. والقضية الفلسطينية منذ المشهد الأول في ملهاتها التي تزداد سوداوية لم تنفصل عن الهم العربي العام، هم الاستبداد والتخلف الذين مكنا الكيان الصهيوني من أن ينشأ ويقوى. وكثير من التغيرات السياسية التي شهدناها خلال نصف قرن ارتبطت بهذا الصراع حتى في الدول التي لم تخض أيا من جولاته، فصعود العسكريتاريا العربية وحالة الاستثناء الممتدة والظلام الدامس الذي أجبرنا المستبدون على التخبط فيه كل ذلك يدعي مقترفوه أنه من ضرورات الظرف الاستثنائي الممتد بسبب هذا الصراع.
ولقد شكل رهان حماس – وأنت أحد أنصع رموزه – انحيازا واضحا للناس داخل فلسطين وخارجها واحتماء حقيقيا بالشعوب لأنها الأصدق والأنقى والأبقى، وهو انحياز إلى قيم كانت دائما فوق المصالح وقُـدمت في سبيلها أعظم التضحيات، ولعلك لا تجادل في أن شعوبنا وفي مقدمتها الشعب المصري لم تخذل القضية الفلسطينية يوما – وبإذن الله لن يفعلوا – بينما خذلها الطواويس الذين أحرزوا للأمة كل الميداليات الذهبية الأوليمبية وغير الأوليمبية في "الخيبة" هزيمة وفسادا واستبدادا وعجزا و. . . . ونحن الآن أمام ظرف تاريخي يحتاج البصيرة قبل الشجاعة فـ "الرأي قبل شجاعة الشجعان" كما يقول المثل و"المؤمن كيس فطن" كما يعلمنا الرسول صلى الله عليه وسلم. والمسألة ببساطة ووضوح يا سيدي أن النظام المصري أدمن الاستبداد وكان يواجه تململ الداخل بالقمع وتذمر الخارج – وبخاصة أمريكا – بالمساومة على تقديم إنجاز في "التسوية" (من المنظور الأمريكي طبعا) مقابل تأجيل الإصلاح وبازدياد الضغوط مؤخرا أصبح انعقاد الحوار الفلسطيني بالقاهرة وسيلة للتسويف بأمل أن تتغير الظروف الدولية قبل أن يضطر لإحداث انفراج سياسي.
وارتباط القضية الفلسطينية مسارا ومصيرا بالاستبداد السياسي العربي كان موضوع مبادرة تاريخية بكل المقاييس رغم أنها مرت دون اهتمام كبير وهي مبادرة "مبادئ تجديد المشروع الوطني" وقد طرحتها (يونيو 2003) مؤسسة مستقلة "مؤسسة مفتاح" التي أسسها مثقفون فلسطينيون (منهم إدوارد سعيد وعزمي بشارة، ومحمود درويش، وإياد السراج وحنان عشراوي.. وغيرهم). المبادرة تبدأ من: "الواقع المأسوي الذي تعيشه الغالبية العظمى من الشعوب العربية " و"حقيقة الأداء المزري للنظم العربية الراهنة والأخطاء والجرائم الجسيمة التي ارتكبتها بحق هذه الشعوب وكرامتها ومكانتها في التاريخ. فالمنطقة العربية - ومصر ليست استثناء من ذلك - هي الأقل في سجل الأداء في جميع المجالات من بين كل أقاليم العالم باستثناء أفريقيا جنوب الصحراء ". والدول العربية تعيش حالة "من الركود والبطش السياسي لا تقل - إن لم تزد سوءا - عما شهدته حتى على يد أسوأ النظم الاستعمارية"، ومقارنة الاستبداد بالاحتلال رغم ما مرارتها تعكس كارثة أن خياراتنا صارت بين المر والأكثر مرارة.
ونعود للمبادرة التي تقيم الأداء الرسمي العربي فتقول "غالبية النظم العربية إما لا تعرف معنى حكم القانون أو تعيش بصورة لا تنقطع في ظل الأحكام العرفية وقوانين الطوارئ وتضيق الساحة السياسية كل يوم وتهيمن البيروقراطية وأجهزة الأمن . . . ويترك لها الحبل على الغارب في تزوير الانتخابات والاستفتاءات العامة بما يلقى فيضا من الشكوك حول احترام القانون وإرادة الشعب والمبادئ الدستورية المستقرة. . . فتستغل قوانين الطوارئ للفتك بالمعارضين وإلقاء عشرات الآلاف من الناس في المعتقلات . . . وتمارس جريمة التعذيب بصورة منظمة وواسعة النطاق وتطال في العادة كل من يقع بيد أجهزة الأمن ولو بصورة عابرة. وفى عدد من البلاد العربية مثل العراق كان يتم اغتيال عشرات الآلاف من الناس". "وفى جميع هذه البلاد تقريبا يفتقر المواطنون للحد الأدنى من الضمانات القانونية والقضائية لممارسة أبسط الحقوق السياسية. . . . وفى كثير منها يحرم الناس حتى من مجرد تكوين منتديات فكرية. وفى أغلبها يتم تجريم تشكيل نقابات مستقلة ولا يسمح للبرلمانات التي تأتى أصلا عبر انتخابات لا تتمتع بمصداقية سوى بأقل السلطات أهمية. . .بل وصل الأمر إلى احتكار كامل للسلطة من جانب أجيال قديمة بل شلل محددة من هذه الأجيال وتنغلق بصورة تامة تقريبا كافة قنوات التغيير السلمي. وقد أدى ذلك كله إلى. . .تمزيق الروابط الوطنية وإنعاش القبلية والعشائرية والطائفية الدينية". كما أن "سحق كرامة المواطن واستفحال كافة صور الفساد والمحسوبية وظاهرة التوريث التي . . .وصلت إلي حد توريث الحكم ذاته في نظم يفترض أنها جمهورية".
"إن هذه النظم الباطشة والراكدة لا تختلف كثيرا عما عاشته بلادنا العربية في أكثر العصور ظلاما وتخلفا"، "والأداء الاقتصادي للنظم العربية هو الأسوأ بين جميع أقاليم العالم باستثناء أفريقيا الاستوائية. . . وتمتلئ كافة التقارير الصادرة عن المنظمات الاقتصادية العالمية والعربية بالإحصاءات والوقائع المخيفة". وتحذر المبادرة من أن: "الأوضاع الاقتصادية والسياسية التي سادت مصر والبلاد العربية لعقود أدت إلي تراجع شديد في نوعية وأساليب الحياة وإلى تقهقر في الأوضاع الاجتماعية للأغلبية الساحقة من أبناء شعبنا وبخاصة فيما يتعلق بحقوق الفئات المستضعفة.
وتكونت بسبب هذا كله فئات مهمشة بالغة الاتساع تكاد تفقد أي صلات بالحياة الاجتماعية أو بالمجتمع الوطني العريض ويباعد الفقر والحرمان بينها وبين التعلق أو التمسك بأية منظومة قيم وطنية وقد تبادر أو تشارك في تدمير المجتمع في أول فرصة سانحة وهو ما شهدنا نموذجا مأسويا له في العراق". وتجربة العراق "تؤكد الخطأ المريع الذي وقعت فيه أنظمة قامت على تراث الحركات الوطنية والقومية ولكنها استعملت الشعارات الوطنية والقومية أسوأ استعمال لوأد مطالب حركات الإصلاح الاجتماعي والسياسي والدستوري السلمي. ونتيجة لشعارات مثل (لا صوت يعلو على صوت المعركة) الذي رفع في مختلف الدول العربية، حتى تلك البعيدة كلية عن أية معارك وطنية حقيقية، أخمدت الحياة السياسية.
وبدأ الكيان الاجتماعي كله في التهرؤ والتعفن بصورة بادية للعين المجردة، وكان من الطبيعي جراء ذلك ألا تنجح تلك النظم في التصدي للهجمة الصهيونية". "إن أسوا كارثة . . . هو أن يرى المرء بلاده تعيش مثل هذا الواقع المأسوي على جميع الأصعدة وهي عاجزة عن الدفاع عن أبسط حقوقها . . . دون أن يحرك ساكنا أو أن يقوم بعملية تجديد شاملة لكيانه، ويبدأ. . . من القطيعة الكاملة مع التضليل والخداع والوعود الكاذبة التي قطعتها النظم العربية على نفسها ونكثت بها. . .ويستند على حشد كل طاقات وجهود القوى السياسية والاجتماعية الراغبة في التغيير - وصاحبة المصلحة فيه - في كفاح سياسي ومدني ودستوري منظم لا ينقطع". إن "إنقاذ بلادنا. . .أصبح مرهونا بتطبيق مشروع نهضوي وطني جديد" وأهم مبادئه: إلغاء الأحكام العرفية والقوانين الاستثنائية والمقيدة للحريات كافة، وإطلاق سراح المعتقلين كافة وإنهاء التعذيب ومعاقبة مرتكبيه، وإلزام الحكومات بالشفافية الكاملة وإقرار الحق في المعلومات وإحياء المشاركة الشعبية.
أما مصر وهي موضوع رسالتي إليك فتتصدر المبادرة لأن "النهضة الداخلية هي الضمان الرئيس لاستعادة مكانة مصر العالمية. . .ويجب استعادة أولوية الاهتمام بالنهضة الداخلية، دون أن يعنى ذلك أبدا الانكفاء على الذات". إن "الإبداع الثقافي والاجتهاد المعرفي والتجديد التكنولوجي والسمو الأخلاقي. . .والاحترام الكامل لحقوق الإنسان في الداخل والخارج هي أهم موارد مصر وأفضل مدخل لها في المعترك الدولي". وأهم مسئولياتها "إعادة بناء النظام العربي وضمان تعبيره عن الإرادة الشعبية".
الأخ العزيز خالد مشعل
إنكم مطالبون بموقف واضح ينزع من يد النظام المصري ورقة المساومة هذه التي دفع المصريون بسببها ربع قرن من الظلام الدامس لا أعتقد أنه أفاد القضية الفلسطينية أو أعاد حقا مسلوبا، فإما موقف واضح صريح يربط قبولكم الدور المصري – وهو على كل حال مريب – بإجراء تحول ديموقراطي حقيقي أو الامتناع عن كل ما من شأنه تمكين النظام المصري من عقد هذه الصفقة البائرة، وفي مقدمة ذلك الامتناع عن حضور أي حوار بالقاهرة.
إنني على يقين من أن خالد مشعل "صاحب القضية" لن يقبل تجاهل حقيقة أن النظام المصري "يستثمر" القضية الفلسطينية لخدمة علاقاته بالغرب وبخاصة أن المحصلة هزيلة، فدماء الشهداء الفلسطينيين أزكى وأطهر وأغلى من نتركها "تسرق" جهارا نهارا لتتحول إلى وقود لآلة الاستبداد المصري بينما لم تنجح هذه "الوساطة/ الوصاية" المصرية في أن تستعيد للفلسطينيين حقا أو تدفع عنهم ظلما.