لعل المتابع المهتم بأمور المنطقة العربية، لابد له أن يلاحظ مدى ما ينتاب هذه المنطقة من محاولات للتغيير في عدد من بلدان المنطقة.. منها: العراق ولبنان والجزائر ومصر وفلسطين والسعودية، ولا نستثني سورية. وهي أمثلة تختلف في ما بينها اختلافاً جوهرياً، في الشروط التاريخية أولاً، وفي شكل التطور، وفي آلياته وأدواته، وفي مضامينه وفي اتجاهاته.
ولعل الأكثر وضوحاً والأكثر تعقيداً والتباساً، من بين هذه الأمثلة ـ وهي مفارقة مثيرة للدهشة والجدل في آن ـ هو المثال العراقي.. خاصة أنه مجتمع متعدد في مكوناته الدينية والمذهبية. في هذا السياق، تتبدى إحدى أبرز تجليات هذا المثال، وهي كردستان العراق، على الأقل من منظور التطورات الأخيرة الحاصلة بخصوص الأكراد، وذلك في الإطار العام لتجاذبات الساحة السياسية العراقية، بكافة ظروفها وملابساتها التي نراها في الراهن.
إذ، مثلما تم تدوين اللغة الكردية (في: مارس 2004)، للمرة الأولى في التاريخ الحديث، في دستور مكتوب في منطقة الشرق الأوسط، عندما كتب "قانون الإدارة المؤقت"، العراقي، باللغتين العربية والكردية.. وذلك بالتزامن مع تسلم قادة أكراد مناصب سياسية مهمة في الحكومة العراقية المؤقتة (بينهم: نائب رئيس الوزراء برهم صالح، الرجل الثاني في "الاتحاد الوطني الكردستاني"؛ ووزير الخارجية هوشيار زيباري، أحد قيادي "الحزب الديموقراطي الكردستاني).
مثلما تم ذلك، فإن الأكراد العراقيين استطاعوا تحقيق مكاسب سياسية إضافية في ربيع العام الجاري (2005)، عبر ترجمة احتلالهم: ليس، فقط، لبضع حقائب وزارية، من بينها الخارجية والتخطيط.. ولكن، أيضاً، وهذا هو الأهم، بل الأول من نوعه في تاريخ الشرق الأوسط الحديث، عبر تسلمهم لمنصب رئيس العراق، الذي احتله الزعيم الكردي جلال طالباني.
ولعل هذا ما دفع البعض إلى أن يطلق على هذه الحالة الفريدة، توصيف: "العراق.. جسد عربي، برأس كردية"..
ولعل هذا، في الوقت نفسه، ما يطرح إمكانية القول: أن المعادلة الرئيسة التي سوف تحكم المستقبل العراقي، هي إحدى الترانيم للمعادلة اللبنانية، التي تحكم المسار السياسي منذ ما بعد نهاية الحرب الأهلية هناك.. فإذا كانت الثلاثية الأساسية في أي بلد هي: "رئيس الدولة/رئيس الحكومة/رئيس مجلس النواب"، فإن الثلاثية اللبنانية تمثلت في: "المسيحيون/السنة/الشيعة"، في حين تتمثل المعادلة العراقية في: "الأكراد/الشيعة/السنة".
بيد أن الجديد هذه المرة، لا يتوقف عند حدود أن الثلاثية الأخيرة هي ترنيمة عراقية للمعادلة اللبنانية.. كما لا يتوقف عند حدود استبدال "المسيحيين"، في لبنان، بـ "الأكراد" في العراق.. بل، إضافة إلى هذا وذاك، يتعلق الجديد، هنا، بكافة الاحتمالات المفتوحة التي تتضمنها الإجابة المتعلقة بالتساؤل التالي:
ترى، إذا كان العراق، أو بالأحرى: المستقبل العراقي، يمثل، في الاستراتيجية الأمريكية تجاه المنطقة العربية، نموذجاً يحتذى به في سائر بلدان المنطقة.. (ترى) هل يمكن أن تمثل كردستان العراق، البوابة الرئيسة لـ "فدرلة"، هذا البلد(؟!).
وفي واقع الأمر، فإن أهمية هذا التساؤل تتبدى بوضوح، إذا لاحظنا: أن مسألة التطبيق الفيدرالي في أية ساحة في العالم، لا تتوقف على تفاصيل متشابهة، بقدر ما هي محكومة بالظروف المحيطة بها.. ومن ثم، ففي ظل "المناخ العالمي الجديد"، وما يتضمنه من هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية، بشكل واضح، على القرار الدولي، فإن المسألة الكردية في العراق، تتسم بخصوصية واضحة.
إذ يكفي أن نشير، هنا، إلى أن الإنجازات السياسية التي حصل عليها الأكراد في العراق، كانت قد ساهمت في تحرك "أكراد سورية"، وتحولهم من مجرد "خلايا نائمة"، إلى حركة سياسية اتسمت بالعنف في عديد من المدن السورية. بل، إن الجدير بالتأمل، هنا، هي الشعارات التي ارتفعت فوق التظاهرات الكردية، من قبيل "تحرير كردستان سورية"، وكذا "طرد المستوطنين العرب"؛ ناهيك عن إنهاء "الاحتلال"، بـ "الانتفاضة".
وهكذا، طرح الخطاب الكردي المسألة وكأنها "احتلال" و"تحرير"، وذلك في سابقة هي الأولى من نوعها في الحياة السياسية لأكراد سورية، الذين كانوا دائماً يركزون على المطالب الثقافية والسياسية والاجتماعية ضمن حدود "الوحدة الوطنية السورية".
في هذا الإطار، إطار الوافع العراقي الضاغط على دول الجوار الإقليمي للعراق، وبالأخص سوريا (وكذا إيران)، تأتي الورقة الكردية كـ "ورقة ضغط"، لها تأثيراتها، على هذه الدول؛ ليس، فقط، لأنها تمثل لها إشكالية كبرى؛ ولكن، أيضاً، من منظور أنها ورقة يمكن للولايات المتحدة الأمريكية (وكذا إسرائيل)، استخدامها في هذا التوقيت الحرج الذي تمر به المنطقة.
يكفي أن نشير، هنا، إلى المشهد العراقي، بكافة ظروفه وملابساته.. إذ، لا يقع المراقب إلا على توصيف قاتم للوضع الأمني العراقي السيئ والمتدهور باطراد، وعلى توجس غريزي، سوري (وكذا إيراني)، من الوجود العسكري الأمريكي في بلاد الرافدين، وما يمكن أن يقدمه، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، من تسهيلات نوعية، سياسية ولوجستية، للقوى المعادية لوحدة العراق وعروبته، وفي مقدمتها: العناصر الكردية الانفصالية، ولـ "جواسيس" إسرائيل الظاهرين والمستترين.
وفي اعتقادنا.. أن هذا يعني ، في ما يعنيه، أن أطراف الجوار الأقليمي للعراق، سوريا وإيران (ناهيك عن تركيا)، كلها، تعي، تماماً، أنه عقب احتلال العراق ـ بموقعه "الجغراستي (الجغرا ستراتيجي) شديد الحساسية" ـ تغيرت الكثير من قواعد اللعبة في العالم عامة، وفي الشرق الأوسط بصفة خاصة.. ضمن أهم هذه القواعد، يأتي تغير التوازن العسكري الإستراتيجي، حيث اختفى العراق كـ "قوة عسكرية عربية"، إضافة إلى ما نلاحظه من سعي لاحتواء سوريا وإيران بصورة أو بأخرى، وهو ما ينبئ بإعادة تشكيل البنية الأمنية لـ "الشرق الأوسط".
ويعني هذا، أيضاً، أن التفاهم "السوري ـ التركي"، والتفاهم "السوري ـ الإيراني"، كل منهما، يندرج في سياق تلك الرهانات الإستراتيجية، المبنية على تبادل المصالح والمقايضة بينها، لتحسين الدور الإقليمي لكل منها في محيطه "الجغراسي" (الجغراسياسي)، المتغير، الذي ستنبثق عن حراكاته صورة التنظيم السياسي الجديد للمنطقة.
يبدو ذلك، بوضوح، إذا لامسنا محاولة إعادة بناء الفرضيات، أو خطط التصور الإستراتيجية الأمريكية تجاه المنطقة العربية ومنطقة جوارها الجغرافي (الشرق الأوسط).. وذلك في ما يخص ما اصطلح على تسميته، في الاستراتيجية الأمريكية بـ "الفك وإعادة التركيب".
هذا، وإن كان يؤكد من جديد على التفاعلات الحاصلة في الشمال الشرقي من الوطن العربي، فإنه، في الوقت نفسه، يعيد التأكيد على طبيعة المشهد العراقي، بل و"الورقة الكردية"، ودورها، في هذه التفاعلات.
في هذا السياق، سياق المشهد العراقي والورقة الكردية داخله، فإن النقطة الأهم، هي: مدى الإمكانية التي تتيحها "الورقة الكردية" في شمال العراق، من احتمال قائم على رؤية أمريكية، ومصلحة إسرائيلية، لإقامة "كردستان مستقلة"(؟!)..
لعل جدية هذا الخطر، الذي تحمله هذه النقطة، يتمحور حول: أن لـ "للولايات المتحدة الأمريكية"، وكذا "إسرائيل"، مصلحة أكيدة في تقسيم العراق، على الأقل من زاوية إخراجه، نهائياً، من معادلة الصراع بين "العرب.. وإسرائيل".
وهنا، لا نغالي إذا قلنا: أن كردستان العراق، أو بالأحرى: الورقة الكردية داخله، يمكن أن تصبح البوابة ـ المنطقية ـ للدخول الأمريكي على خط "الفك وإعادة التركيب"، على الأقل في ما يخص "الحدود السياسية الداخلية" في العديد من البلدان العربية، بما يؤشر إليه ذلك من إمكانية فتح الباب على مصراعيه لـ "نمذجة العراق فيدرالياً"، كخطوة أولى تليها ـ منطقياً ـ خطوات، أمريكية، أخرى.
وهنا، لا نغالي، أيضاً، إذا قلنا: أن إسرائيل، كما الأوساط المؤيدة لها في إدارة بوش، لا سيما في وزارة الدفاع الأمريكية، تدعم "إقامة كردستان مستقلة"، تكون لها بمثابة حاملة طائرات برية لتحقيق أهداف سياسية ولوجستية وعسكرية في مواجهة الدول الإسلامية المجاورة للعراق.
وحتى لو تعذر إقامة مثل هذه "الجزيرة الأمنية وسط محيط معادٍ لها"، فإن إسرائيل، كما الولايات المتحدة، قد تكتفيان بـ "كردستان ذات حكم ذاتي في عراق فدرالي"، يكون لهما فيه حضور ونفوذ كثيفان، وقواعد ومراكز ظاهرة أو مستترة، تساعد جميعاً في خدمة سياساتهما ومصالحهما داخل العراق وفي الدول المجاورة.
فهل يمكن، كما تساءلنا في مقال سابق لنا، أن ينتظر "العرب" حتى يكرر التاريخ نفسه مرة أخرى؛ نعني: تكرار تجربة إقامة "دولة غير عربية" في وسط المحيط العربي(؟!).