على مسمع من خمسة آلاف عضو من مجموع عدد أعضائها البالغ مئة ألف في شتى أنحاء الولايات المتحدة، ألقت كوندوليزا رايس خطابها المنتظر أمام المؤتمر السنوي لـِ " اللجنة الأمريكية- الإسرائيلية للشؤون العامة – إيباك " في واشنطن مطلع الأسبــوع الجاري. فيه دعت سوريا مجدداً إلى "أن تسحب قواتها المخابراتية، وأن تسمح للشعـب اللبنانـي بأن يكون حرًا ". وكانت قد اتهمت سوريا أيضا بتسريب المال والرجال إلى "المتمردين والإرهابيين" ضد حكومة العراق. قبل وزيرة خارجيته ، كان الرئيس جورج بوش ووزير دفاعه دونالد رامسفيلد وجمهرة من الشيوخ والنواب والقادة العسكريين والمسؤولين الإستخباريين قد اتهموا سوريا بالأمر نفسه.

في الوقت الذي كانت كوندوليزا تلقي خطابها ، كان الفريق الدولي للتحقق من الإنسحاب السوري العسكري والمخابراتي من لبنان يؤكد في تقريرٍ رفعه إلى الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان انه بعد زيارة 133 موقعا سابقا للقوات السورية، وبعد تجواله في أكثر من 1500 كيلومتر في لبنان وإلتقاطه لأكثر من 600 صورة وتلقّيه التعاون الكامل من السلطات اللبنانية والسورية" لم يجد قوات ومعدات سورية عسكرية أو أجهزة مخابرات في الأراضي اللبنانية، باستثناء كتيبة سورية منتشرة قرب دير العشائر (...) التي لها وضع غير واضح (...) وان وضع هذه الكتيبة سيتضح عندما تتوصل الحكومتان إلى إتفاق حدودي".

يتحفظ الفريق الدولي لجهة انسحاب الأجهزة المخابراتية السورية من لبنان انسحابا كاملاً " كون الأنشطة الاستخباراتية سرية " . لكنه يجزم بأنه " لم يعد هناك وجود لعناصر المخابرات السورية في المواقع المعروفة ، أو في البزات العسكرية ".

كل هذه الوقائع والحقائق والتأكيدات لا تقنع أمريكا. فسوريا تبقى متهمة بأنها تخالف القانون الدولي في لبنان كما في العراق. وقد يأتي يوم تتهمها واشنطن بأن لها أنشطة مخابراتية في الأراضي الأمريكية نفسها !

إزاء هذه الحملة المتمادية وأغراضها الخبيثة، اتخذت سوريا أخيرا موقفا لافتا. فقد كشف السفير السوري في واشنطن عماد مصطفى لصحيفة " نيويورك تايمز" أن بلاده قطعت كل صلات تعاونها العسكري والمخابراتي مع الولايـات المتحدة . لماذا؟ لأن دمشق، حسب تصريح السفير السوري، قامت بكل ما يمكنها القيام به من تدابير لمعالجة شكاوى واشنطن وطلباتها لتجد، بعد كل الجهود التي بذلتها، أن أمريكا مصممة على تصعيد الحملة عليها.

إلى أين من هنا؟ هل يصل التوتر المتصاعد بين واشنطن ودمشق إلى قيام الأولى بفتح معركة سياسية قد تتطور إلى تدخل عسكري ضد الثانية؟

لا شك في أن كلا العاصمتين تأخذان في الاعتبار المؤتمر القطري لحزب البعث الحاكم الذي سيعقد في الأسبوع الأول من حزيران/ يونيو المقبل. فالرئيس بشار الأسد يريد أن يبدو قويا وصاحب قضية وطنية ومكافحا من اجلها أمام المؤتمر القطري. بذلك يدعم مركزه حزبياً وشعبياً، خصوصا إذا ما اغتنم واقع الضغوط المتصاعدة على بلاده ليتحكم في مسألة ما يستطيع أن يقدمه من تنازلات لشعبه على صعيد المتطلبات الديمقراطية وما يجوز أن يطالبه به، في المقابل، من التزامات وتضحيات في مواجهة الحملة الأمريكية العدوانية. أما بوش فهو يريد انتهاز فرصة المؤتمر القطري ليصعّد ضغوطه أملا بإضعاف الحزب الحاكم وحمله على أن يقدّم لأمريكا مزيداً من التنازلات التي لا يستطيع الأسد تقديمها منفردا.

ما نوع التنازلات التي تريدها امريكا ؟


لعل بوش يريد انسحاب النظام السوري من دمشق وليس فقط من لبنان! لهذا السبب أوحت أوساطه بأنه بات يعامل بشار الأسد كما كان يعامل ياسر عرفات. فقد استدعى سفيرته مارغريت سكوبي بعد اغتيال المرحوم رفيق الحريري في 14 شباط/ فبراير الماضي ولم تعد منذ ذلك الحين إلى دمشق. وهو يمتنع عن محادثة الأسد، كما يرفض استقبال أي مسؤول سوري. وربما سيزدري أية إصلاحات ديمقراطية قد يقرّها المؤتمر القطري، وسيطالب بالمزيد، حتى إذا استجاب الحكم بتوفير المزيد منها، ردّ بوش بأن هذا كله غير كاف!

أن أحدا لا يعرف طبيعة الجرعة الديمقراطية التي تريد واشنطن لدمشق أن تتناولها ولا يعرف نوعها أو مقدارها.

فالديمقراطية ليست، في نهاية المطاف، إلا مجرد ذريعة تطلقها واشنطن في كل مرة تريد من دولة " مارقة" أو " شاذة" ، بحسب مقاييسها، أن تمتثل لطلبات معينة تبتغيها. وهي طلبات تتحدد طبيعتها ومواصفاتها بظروف المكان والزمان. ففي مصر، مثلا، اكتفت واشنطن بموافقة الرئيس حسني مبارك على تعديل الدستور ليصار إلى " اختياره " مجدداً بانتخاب من الشعب يتنافس في خلاله مع مرشحين آخرين، وليس باستفتاء يكون هو فيه المرشح الوحيد، فكان أن جرى تضييق شروط الترشيح على نحوٍ يحول دون تأهيل أي مرشح ذي مكانة وشعبية لمنافسته!

في السعودية، أبدت واشنطن ابتهاجها وبالتالي اكتفاءها، بالانتخابات البلدية كدلالة على بزوغ فجر الديمقراطية. وستكون بهجتها مضاعفة إذا ما قرن مجلس الشورى السعودي ذلك التدبير الإصلاحي بمنح المرأة حق قيادة السيارات!

في العراق، نظّمت إدارة الاحتلال انتخابات عامة قاطعها نحو نصف السكان، ولم يتمكن النواب الجدد من التفاهم على تشكيل حكومة جديدة إلاّ بعد مرور أربعة أشهر وسقوط أكثر من 600 قتيل، والتسبب بفتنة قد تتحول حرباً أهلية!
غير أن أطرف معايير الديمقراطية ذلك الذي نطقت به كوندوليزا في خطابها الشهير أمام مؤتمر " ايباك" الأخير. فقد قالت بالحرف:

" إن البعض في وسائل الإعلام العربيــة
تساءل لماذا الديمقراطيـات الحقيقيـــة
الوحيدة في الشرق الأوسـط هي فقــط
تلك الموجودة بين مزدوجين " الأراضـي
المحتلة" في العراق والأراضي الفلسطينية.
يا لها من فكرة من الصعب تصديقها! اليوم
المواطنون في المنطقة يسألون، وحكوماتهم
تجيب عن هذا السؤال البسيط والجريء"...

بماذا تجيب الحكومات عن هذا السؤال البسيط والجريء ؟


الحقيقة أن ما من حكومةٍ تجرأت على الجواب، ولا كوندوليزا نفسها تجرأت. لماذا ؟ لأن الجواب الذي تريد كوندوليزا حكومتي العراق وفلسطين أن تعطيه هو: نجحت الديمقراطية عندنا لأن الانتخابات جرت في ظل الاحتلال!

أجل، هذا ما جبنت كوندوليزا عن الجهر به وأرادت من حكومتي العراق وفلسطين التجرؤ على قوله نيابةً عنها.

الاحتلال شرط للديمقراطية! فيا أيها المضطهدون في دنيا العرب والإسلام، إذا كنتم تريدون الديمقراطيـة فما عليكم إلاّ دعوة أمريكا أو إسرائيل إلى احتلال بلادكم. وبعد الاحتلال سترون كيف تقوم بتنظيم انتخابات حرّة، حرّة من أولئك الذين يعارضون في إجرائها تحت الاحتلال، فيكون النصر حليف طلاب الحرية والديمقراطية المتعاونين مع سلطة الاحتلال الأمريكية!

شرّ البليّة ما يضحك .. ولعل أشدها شراً أن يمعن حكام بعض البلدان العربية في اضطهاد شعوبهم وحرمانها حقها المشروع في الحرية والديمقراطية لدرجة يجد معها بعض ضعفاء النفوس – مثل أركان المعارضة العراقية المهاجرة في عهد صدام – أن الحل الوحيد هو في دعوة أمريكا – المستعدة دائما – لاحتلال بلادهم من أجل إقامة نظام الحرية والديمقراطية!

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

nashiri logo clear

دار ناشري للنشر الإلكتروني.
عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

 

اشترك في القائمة البريدية