من حلقة الدرس إلى ظلمة الحبس، ومن صحبة الكتب والدفاتر إلى ملازمة القضبان والعساكر! هكذا كان الانقلاب الذي تعرضت له حياة العالم الفقيه الشاب محمد الحسن ولد الددو العام الماضي في وطنه موريتانيا، فقد تمّ اعتقاله في أكتوبر من العام الماضي، ثم أطلق سراحه مؤقتاً ليعاد مرة أخرى الى المعتقل في مطلع نوفمبر، وكالعادة فإن مسوغات الاعتقال القانونية لا تختلف كثيراً عن نظائرها في بقاع الوطن الاسلامي، انها تتم تحت غطاء دعوى مكافحة الإرهاب، وهي دعوى استغلتها الانظمة الحاكمة ومؤسساتها الأمنية أسوأ استغلال للتخلص من معارضيها، واذا كان الشعار المرفوع قديماً «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة»، فقد تحول الى «لا صوت يعلو فوق صوت مكافحة الإرهاب»، حيث يلاقي المعتقلون بهذه التهمة معاملة سيئة تصل الى درجة التعذيب الجسدي والنفسي دون تقديم ادلة مقنعة وبراهين واضحة تثبت الجرم وتدين المتهمين، وهو أمر لا يصعب تفسيره حين يكون الخصم هو القاضي والحكم في الوقت ذاته!
عرف الشيخ الددو بسعة علمه واطلاعه الواسع في الشريعة وعلوم الآلة، وقد أقام في الرياض حقبة من الدهر بهر الناس فيها بسعة محفوظاته، ونبوغه المميز وذاع صيته وانتشر ذكره بين طلاب العلم، وهو الملقب في بلاده بنابغة المغرب الاقصى وهو معروف لدى المنظمات الاسلامية في الغرب بدوره الدعوي المميز، ولم يكن الشيخ السجين ممن يؤمنون بالفصل بين حلقة الدرس ومعترك الحياة، ولا ممن يعتقدون أن دور الفقيه مقصور على الانعزال بطلابه في زاوية مسجد أو الانكباب على كتبه وأوراقه، لكنه يؤمن ايماناً جازماً بأن الدين ينبغي أن يسوس الحياة وأن على الفقيه الحق أن يصدع ببيان حكم الشرع في ما يعصف بحياة الناس من نوازل وأزمات، وهو الامر الذي كلفه الكثير الكثير، وقد وسعه أن يكون ككثير من الفقهاء المهادنين ليحظى برعاية الدولة وهبات ولاة الأمر، غير أنه اختار طريق الصدع بالحق والجهر بخطاب الشرع، فالفقيه لا يكون فقيها الا بذلك، وما خلا ذلك محض وساوس وأوهام، الفقه والفقهاء منها براء, لقد قاد الددو الحركة الاسلامية في بلاده حيث يعد الان مرشدها الروحي كما يقولون بلغة أهل العصر، وكانت له صولاته في مناهضة الاستبداد والحكم الفردي المطلق، كما حتم عليه انتماؤه الديني والقومي التصدي لتيار التطبيع مع الكيان الاسرائيلي، الذي بلغ ذروته بزيارة وزير الخارجية الاسرائيلي لنواكشوط قبل أسابيع، وهي الزيارة التي فجرت مظاهرات حاشدة تم تفريقها بالطريقة العربية المعروفة!
وها هو الشيخ العالم يقبع في ظلمة زنزانته في سجن انفرادي موحش لا تتوافر فيه ادنى مقومات صيانة الكرامة الآدمية، وهو يقاسي آلاماً حادة دفعت بأسرته الى مناشدة المؤسسات المهتمة بحقوق الإنسان التدخل بأسرع وقت لنجدة الشيخ بعد ان قرر الاطباء انه بحاجة للعلاج في الخارج بسبب ظروف الاعتقال المهينة، وقد أعلنت منظمة العفو الدولية في نوفمبر الماضي أن الشيخ ورفاقه «سجناء ضمير اعتقلتهم السلطات الموريتانية لمعتقداتهم الدينية والسياسية حصراً», واختم مقالتي بفقرة مقتبسة من نداء المناشدة الذي أطلقه الشيخ محمد بن المختار الشنقيطي مدير المركز الاسلامي بولاية تكساس الأميركية رئيس المرصد الموريتاني لحقوق الإنسان: «إن أمة يهان فيها أهل العلم والفضل والنبل وهي صامتة لهي أمة غير جديرة بالحياة الكريمة»، وإلى الله المشتكى!