حين كانت رحى الموت تطحن الصحفيين الجزائريين امتدت يد الإجرام الآثمة لتسكت للأبد أفواه ما يزيد على مئة وأربعين من الصحفيين والكتاب و المذيعين في الجزائر، وكان على الباقين أن يبيعوا أقلامهم أو يفروا بجلودهم ليستمروا في قول كلمة الحق وتنوير الرأي العام. أحد أبرز هؤلاء الصحفيين الأبطال الكاتب الصحفي يحي أبو زكريا يحدثنا عن اغتيال الصحفيين العربيين ضيف غزال وسمير قصير حديث من عايش هذه التجربة المرة. على الرغم من أنّ الأرض بدأت تتزلزل تحت أقدام الطغاة في العالم العربي، و على الرغم من أنّ بوادر العواصف الشعبية والجماهيرية بدأت ترتسم في كل الجغرافيا العربية، وعلى الرغم من أنّ شعار العربي اليوم من المحيط إلى الخليج هو كفاية، وكفاية للظلم والإحتقار و الإستبداد و الإستضعاف و الإذلال و القمع والتعذيب والترهيب و تكميم الأفواه و كسر الأقلام و قتل الأحرار، إلاّ أنّ الطغاة يأبون أن يتعلموا من واقعهم و المتغيرات المحلية و الدولية المتسارعة ويصرون أن تكون نهايتهم كنهاية الطاغية صدّام حسين الذي بات عاجزا وغير قادر حتى على ستر عورته وسوأته.
وصحيح أنّ كل شرائح المجتمع في الوطن العربي ترفض حتى النخاع الإستبداد والطغيان وتنظر بكثير من الإستهجان و الإحتقار إلى الطغاة وهم يمارسون لعبتهم المفضلّة في إذلال الشعوب ويكرسّون مبدأهم المفضّل الظلم ثمّ الظلم إلاّ أنّ هناك شريحة أقضّت مضاجع الحكام وهي شريحة المثقفين و الكتاب الطلائعيين الذين لم ينخرطوا في ملاك الطغاة و الذين رفضوا كل الإمتيازات التي تدافع إليها المثيقفون و أشباه المثيقفين و الشعراء الشويعريون الذين مجدوا الطغاة وبطشهم وظلمهم و إستبدادهم وجاهليتهم و حماقتهم وغدرهم و سجونهم و إيديولوجيتهم إذا كانت لهم إيديولوجيا .
لقد ساهم المثقفون الأحرار في تعرية هذا الظالم و كشفوا حقيقته المتمثلة في كل تفاصيل الإنيهار الذي يتحمل وبطانته المتنفذّة مسؤوليته .
و لذلك كان هؤلاء الطغاة ينظرون بريبة وقلق و ذعر و رفض إلى أي حالة ثقافية أو إعلامية أو شعرية تتناولهم بالنقد والتعرية والفضح، ولذلك أيضا كانت القرارات الفوقية فورا تقضي بقتل هذا الإعلامي أو ذاك الكاتب إذا تجاوز الخط الأحمر و الخطّ الأحمر في نظرهم هو تناول هذا الحاكم الطاغية أو كل ما له علاقة بحكمه و تفاصيل حكمه ضمن الدوائر القريبة او البعيدة، ولذلك فأي كاتب أو صحفي يخطف هنا أو يقتل هناك أو يعدم هنالك أو يقتل ويرمى في الشارع أو تفخخّ سيارته فإنّ وراء ذلك متهم واحد لا غير، متهم أحادي لا ثاني له ولا شريك له وهو السلطان الذي جففّ منابع الحرية في أوطاننا و أحرق شجرة الأمل بل ومنعنا أن نتطلعّ إلى المستقبل.
كم عدد الصحفيين والكتاب الطلائعيين الأحرار الذين قتلوا في سجون الطغاة أو في الشوارع العامة من قبل الأجهزة الأمنية التي يصرف عليها الطغاة من أموال الأمة، وكم هو عدد الكتاب والصحفيين الذين طردوا خارج أوطانهم و حرموا من جوازات سفرهم المدموغة بأختام الوطن الذي يربض الطاغية على جثمانه المنهك بظلمه وإستبداده , وكم هو عدد الصحفيين والكتاب الذين لم تسجل السفارات العربية أولادهم في السجلات الرسمية و الذين نشأ أولادهم بلا أوراق رسمية وهم أصحاب الشرعية في الأرض العربية الحافية والتي جردّها الطغاة من حريتها و كرامتها .
عدو الطغاة رقم واحد في العالم العربي ليس الجهل و لا الأمية ولا الفقر ولا البيوت القصديرية و الطبقية المتوحشة ولا الفساد المستشري في أجهزة الدولة و لا سكن الجماهير المسحوقة في المقابر و الشوارع ولا الأمركة الزاحفة الممسكة بتفاصيل واقعنا السياسي والأمني والعسكري ولا الكيان الصهيوني و مؤامراته , بل عدو الطاغية العربي هو القلم الحاد الصريح الصادق المنافح عن كرامة الأمة المعتقلة والمسجونة بالتأبيد من قبل الحاكم المؤبّد الذي سرق الحرية و الإنطلاق و القصيدة والكلمة و المشروع الحضاري و النهضوي .
إنّ الطغاة الذين سرقوا العقول والإبداع سيدفعون غاليا ثمن قتلهم للكتاّب الأحرار ورميهم إياهم في الشوارع بعد تعذيبهم و سومهم سوء العذاب , وهذه الفعال لا يضطلع بها إلاّ اللقطاء الجبناء الذين يخافون من الكلمة التي تتهيجّ صدقا وحرية و كرامة وقوة , فهي عليهم أبلغ تأثيرا من السيف الصارم .
إنّ تكررّ إستهداف الكتاب و الصحفيين في المشرق العربي كما في المغرب العربي وفي كل زوايا العالم العربي المسجون في ديكتاتورية الحاكم المطلق هو مؤشرّ على بداية ترهّل هذه النظم السياسية العربية التي أفضت إلى حالة الإفلاس العامة , فالحاكم العربي لم يسرق اللقمة و الملبس والسكن بل سرق حتى الخيال والإبداع والعقل والفكر ويريدنا ان نصبح ونمسي على قصة وصوله على ظهر الدبابة أو عبر أجهزته الأمنية إلى سدّة صنع القرار .
وبالتأكيد فإنّ هذا الوضع المزري لن يدوم مطلقا في عصر باتت الحرية شعاره , و الكرامة عنوانه , و لا يمكن لهذا الطاغية أن يسترسل بالدوس بحذائه العسكري على رقاب الملايين , و تحديدا على رقاب الناطقين والمعبرين عن آمال هذه الملايين وهم الكتاب الشرفاء الذين رفضوا أن يأكلوا من موائد الطغاة أو أن يستلموا ظروفهم المغلقة المعبّأة بوسخ الدنيا الذي إشترى به الطغاة ذمم الكتاب والصحفيين المتسخين الذين باعوا ضمائهرهم و مجدوا هذا الحاكم الذي سيعجز لا محالة في ستر عورته التي سيطلّع عليها يوما ما الملأ المستضعف كل الملأ المستضعف .