حقق مرشحو حزب الله تفوقًا لافتًا في جولة الانتخابات النيابية الثانية التي جرت في دائرتي الجنوب والنبطية الأحد الماضي. وكان مرشحو حركة حماس قد حققوا نتائج مماثلة في الانتخابات البلدية الأخيرة التي جرت في قطاع غزة.
من هاتين التجربتين الغنيتين يمكن استخلاص حقيقتين ساطعتين . الأولى ، أن لا تناقض بين المقاومة والديمقراطية. فالمقاومون بالسلاح يستطيعون أن يكونوا ديمقراطيين بالرأي وبالكلمة السواء. الثانية ، أن الانتخابات تضفي شرعية إضافية على المقاومة، إذ ليس أدل على ثقة الشعب بنهج المقاومة وقادتها من انتخاب مرشحيها ليتولوا كنواب صلاحيات تمثيلية وتشريعية! إدارة بوش تبدو محرجة إزاء هاتين الحقيقتين، كما تبدو حائرة أمام ما يجب القيام أو عدم القيام به من تدابير حيال قرار مجلس الأمن 1559 الذي قضى بتجريد حزب الله والمخيمات الفلسطينية من السلاح . ذلك أن التراجع عن تنفيذ القرار المذكور يُعتبر صفعة لإسرائيل ، بل لإدارة بوش تحديدا. كما ان الإصرار على تنفيذه بعد إنتهاء الإنتخابات يشكّل صفعة للديمقراطية التي إنتدبت أميركا نفسها لتعميمها في دول الشرق الأوسط الكبير.
حيرة إدارة بوش أمام مسألة المقاومة والديمقراطية تطورت إلى ما يشبه التناقض في مواقف أركانها. ذلك ان نائب مساعد وزيرة الخارجية لشؤون الشرق الأوسط سكوت كاربنتر صرح بأن الإدارة الأميركية ترحب بمشاركة "حماس" في الإنتخابات الفلسطينية " بشرط نبذ العنـف". غير انه لم يحدد جدولا زمنيا لنزع السلاح . كما لم يعتبره شرطا مسبقا للدخول في العملية الإنتخابية ، بل أكــــد ان " الساحة السياسية مفتوحة للجميع ، وان الولايات المتحدة ترحب بأي طرف منتخب ديمقراطيا ويدين العنف". حسناً ، ماذا سيكون رد كاربنتر اذا سأله عضو في حركة حماس يشغل منصب رئيس بلدية منتخب : أنا على استعداد لإدانة العنف ، فهل حكومتك مستعدة لإدانة العنـف الذي تمارسه إسرائيل يوميا ضد الشعب الفلسطيني ؟
الناطق الجديد بإسم الخارجية الأميركية شون ماكورماك لم يرحب بمشاركة حزب الله في الانتخابات النيابية كما رحب زميله كاربنتر بمشاركة " حماس" في الانتخابات البلدية بدعوى " ان حزب الله وميليشياته المسلحة ليست خاضعة للمؤسسات التي تعكس إرادة الشعب اللبناني". حسنا ، هل " حماس" خاضعة لمؤسساتٍ تعكس إرادة الشعب الفلسطيني بحسب الفهم الأميركي لهذه المؤسسات ؟ وهل تعيد إدارة بوش النظر في موقفها السلبي الذي عبّر عنه ماكورماك اذا كرر رئيس حكومة لبنان ووزيرا دفاعه وداخليته تأكيداتهما بأن المقاومة الإسلامية ليست ميليشيا ، وأنها حركة وطنية مسلحة تعمل من اجل تحرير ما تبقّى من الأراضي اللبنانية التي تحتلها إسرائيل ، وان عملها هذا يحظى بموافقة الحكومة ومجلس النواب والأكثرية الساحقة من الشعب اللبناني؟
كلنا يعلم ان حرص إدارة بوش على تجريد المقاومة الفلسطينية ، كما المقاومة اللبنانية ، من السلاح لا علاقة له بالديمقراطية ولا بإرادة الشعبين الفلسطيني واللبناني. انه موقف نابع من حرص إدارة بوش على الإمتثال لطلبات إسرائيل السياسية والعسكرية . وعليه ، فإن سجالنا الحاضر مع كل من كاربنتر وماكورماك ليس الهدف منه إقناعهما بوجهتي نظر حزب الله و" حماس" بل عرض الموضوع على الرأي العام لكشف تناقضات مسؤولي إدارة بوش وإنحيازها الأعمـى إلى اسرائيل . فوق ذلك ، فإن لعرض الموضوع على هذا النحو هدفا آخر شديد الأهمية هو ضرورة إعتماد الديمقراطية وبيان فائدتها وفعاليتها . فقد إتضح بجلاء من تجربتي حزب الله و " حماس" ان الديمقراطية صالحة وممكنة التطبيق ومنتجة وفاعلة في الحرب كما في السلم . أجـل ، من يقدر على إعتماد الديمقراطية في الحرب يقدر ، بطبيعة الحال ، على إعتمادها في السلم ، وان لا شرعية سياسية خارج الديمقراطية والإنتخابات والإستفتاءات الشعبية . فهل لدى أهل السلم كما أهل الحرب حجة بعد للعزوف عن إعتماد الديمقراطية ؟
نعم ، يبدو ان لأهل الحرب ، وفي مقدمهم أميركا ، حجة بل ذريعة للتهرب من مفاعيل الديمقراطية . ذلك ان لبنان ، حتى في مقاييس أميركا ، دولةٌ ديمقراطية الأمر الذي يستوجب الاعتراف بشرعية القرارات التي تتخذها مؤسساته الحكومية المنتخبة . لكن أميركا تتجاهل هذا المنطق تماماً اذْ ترفض الإقرار بمشروعية القرارات الصادرة عن مؤسساته المنتخبة ، لا سيما ما يتعلق منها بقرارات حكومته لجهة شرعية المقاومة الإسلامية الناشطة في جنوبه ومشروعية موافقة الحكومة على أنشطتها.
في سياق إصرارها على إنكار شرعية المقاومة ، تلجأ الولايات المتحدة إلى مجلس الأمن الدولي لإستصدار قراراتٍ تقضي بإعتبار المقاومة ميليشيا مسلحة وأن مجرد وجودها يشكّل تهديدا للأمن الدولي بصرف النظر عن موافقة الحكومة المعنية على وجود المقاومة ودعمها لأنشطتها . أليس القرار 1559 تجسيداً لهذا المنطق الأعوج الذي تعتمده أميركا وتفرضه على المنظمة الدولية ؟ ألا يشكّل القرار 1559 إنكاراً من طرف أميركا ، كما من طرف الأمم المتحدة ، لديمقراطية النظام اللبناني وإضعافا لها ؟ ان مجرد تجاوز قرار الحكومة اللبنانية القاضي بمشروعية المقاومة والإصرار على تدويل القضية من خلال إصدار القرار 1559 يشكّل في آن سحبا للإعتراف بدمقراطية النظام وتدخلا سافرا في شؤون لبنان الداخلية.
ان لجؤ أميركا إلى تدويل شؤون لبنانية داخلية ليس مردّه إلى إعتبارات قانونية أو أمنية بل إلى اعتبارات سياسية بالدرجة الأولى. فقد جرى تكليف لجنة تحقيق دولية بقرار من مجلس الأمن في قضية إغتيال المغفور له الرئيس رفيق الحريري، كانت اقترحته وساندته أميركا وفرنسا. لكن أميركا رفضت تكليف اللجنة ذاتها أمر التحقيق ربما في اغتيال المغفور له الصحافي سمير قصير. لماذا ؟ لأن أميركا تعتبر مدّ صلاحية اللجنة الدولية لتشمل التحقيق في قضية قصير إنتقاصا من صدقية حكومة نجيب ميقاتي. لكن جهاز القضاء اللبناني يبقى هو نفسه دونما تعديل سواء في أثناء ولاية حكومة عمر كرامي السابقة التي لم تحظَ بدعم أميركا أو في أثناء ولاية حكومة ميقاتي اللاحقة التي تحظى بدعمها ، فهل من سببٍ لرفض تدويل التحقيق في قضية قصير غير الاعتبارات السياسية ليس إلاّ ؟
كان الأمر ليهون لو تبرعت ادارة بوش بأي سبب قانوني أو أمني لتبرير الإحجام عن إخضاع قضية قصير لتحقيق دولي. لكن بيان مجلس الأمن الصادر في هذا الخصوص اعتبر " هذا الإغتيال ، مثل الاغتيالات التي حدثت قبله ، يمثل جهدا مميتا لتقويض امن لبنان وسيادته ووحدته وحرمة أراضيه واستقلاله السياسي". بل ان البيان أشاد بقصير " الذي كان رمزاً للإستقلال السياسي والحرية "، فهل من فارق في الجوهر بين قضيته وقضية الحريري؟
هكذا أصبحت الشؤون الداخلية للدول التي لا تحظى حكوماتها برضى إدارة بوش قضايا دولية تهدد الأمن العالمي وتستدعي تدخلا دوليا للإشراف على ممارسة تلك الحكومات صلاحياتها المنصوص عليها في دساتيرها. أما الحكومات التي تحظى برضى الإدارة اياها، فهي بمأمن من أي تدخل دولي في شؤونها الداخلية .
قضيتان متشابهتان بل متطابقتان ومع ذلك تجترح أميركا لكل منهما إجراءات مختلفة ... والآتي أعظم !