فوز تيّار العماد ميشال عون في الجولة الثالثة من الانتخابات كان مفاجأة لبنان لنفسه . بل كان مفاجأة المسيحيين لأنفسهم ، يقول البعض. غير ان العماد عون يصرّ على انه زعيم وطني يمثل المسيحيين ويمثل غيرهم أيضا، وأنه لم يتفاجأ بفوزه أبدًا . لعل ما يقوله صحيح . فهو لا يستطيع أن يقدّم للمسيحيين ، بعد اليوم ، شيئا خاصا بهم . لقد خرجت سورية من لبنان ، وهذا كان أقصى أمانيهم . بل ذلك أمنية المسلمين ايضاً في نظر العماد مذّ كان في المنفى . ما يعنيه بخروج سورية من لبنان هو خروج مخابراتها ونظامها الأمني الذي استغلته جماعة من أنصارها اللبنانيين – مسيحيين ومسلمين – ليحكموا البلاد نحو 30 عاما ويستحلبوا خيراتها من خلال شراكة للفساد المنهجي قلّ نظيرها. سورية أصبحت الآن وراءنا ، يقول العماد ، ويرفض تهويل بعض "المعارضين" بعودة ثلّة من ضباط مخابراتها إلى البقاع والشمال ، ويطلب إلى وزير الداخلية ، الحريري الهوى ، إلقاء القبض عليهم إذا كان الخبر صحيحا.
ما يتطلع إليه عون ، من الآن فصاعدا، يخص اللبنانيين جميعا : إعادة تأسيس الدولة على قواعد القانون والديمقراطية والتنمية بدءا بقانون للإنتخاب يؤمّن صحة التمثيل الشعبي وعدالته ( النسبية تحديدا ) ، ثم الإنطلاق في عملية المساءلة والمحاسبة لكشف أسباب بلوغ الدين العام أكثر من 44 مليار/ بليون دولار ، والتشدد في محاربة الفساد.
هل يتطلـع عون إلى رئاسة الجمهورية ؟ يجيب : " لديّ طموح لتنفيذ برنامجي ، وإذا كانت الرئاسة ستساعدني في ذلك فلمَ لا ؟ لكني إذا اضطررت إلى الاختيار بين الرئاسة وبرنامجي فسوف اختار الأخير".
زعيم المعارضة ( السابق) النائب وليد جنبلاط رحّب بطموح عون إلى الرئاسة . قال له : أهلاً وسهلاً ! كثيرون فسّروا ذلك بأنه مجرد سخرية. هذا ليس صحيحا. جنبلاط أدرك بحاسته السياسة المرهفة أن المشهد اللبناني بعد الانتخابات سيمكّن عون من أن يلعب دورا . لعل أصداء مباحثات " قمة القناصل" في باريس قد تناهت إلى مسامعه فأعاد النظر في حساباته وسياساته . ذلك ان الإجتماع المذكور الذي ضمّ سفراء أميركا وفرنسا وبريطانيا والاتحاد الأوروبي في لبنان ومعهم مدير دائرة الشرق الأوسط في الخارجية الفرنسية لم يكتفِ بعرض احتياجات لبنان الاقتصادية وما يمكن ان يقدّمه البنك الدولي في هذا المجال بل تعدّاها إلى الشؤون السياسية . السفراء وبعدهم أمين عام الأمم المتحدة كوفي عنان وموفده إلى سورية تري رود-لارسن تدارسوا مع الرئيس الفرنسي جاك شيراك التطورات السياسية غداة " تسونامي" العماد عون في إنتخابات جبل لبنان وانعكاساتها المقبلة ، امنيا وسياسيا. يبدو انهم توصلوا إلى اقتناع مبدئي بأن متابعة تنفيذ سائر بنود القرار 1559 لا يمكن أن يشكّل أولوية ، في الوقت الحاضر ، لدى الكتل النيابية الفائزة : من نبيه بري وحسن نصرالله إلى وليد جنبلاط وسعد الحريري إلى ... ميشال عون . ثمة أولويات أخرى أكثر إلحاحا برزت كتأليف حكومة جديدة ، والتوافق على صيغة متكاملة للوفاق الوطني بغية تجنيب لبنان هزات أخرى ، ومنع عودة " النظام الأمني " السابق.
الحقيقة ان انتصار عون في إنتخابات جبل لبنان والبقاع أوجد إصطفافا جديدا للقوى السياسية ، كما فرض تقديم بعض الاولويات على بعضها الآخر. هذا الإصطفاف لن يتأثر كثيرا بنتائج انتخابات دائرتي محافظة الشمال . لعل أبرز مفاعيل الإصطفاف الجديد ثلاثة:
· أحبط عون بإنتصاره عملية " تلزيم " لقاء المسيحيين المعتدليــن ( قرنة شهوان) لتكتل الحريري- جنبلاط . فقد نال عون نتيجةَ الجولة الثالثة من الإنتخابات 11 مقعدا مارونيا، من بين 21 مقعدا نيابيا فاز بها ، وأصبح في وسعه تعطيل ادعاء تكتل الحريري- جنبلاط بأنه يستحوذ على تأييد أكثرية النواب المسيحيين الموارنة ..
· رسوب عدد من النواب الموارنة المؤيدين لتكتل الحريري- جنبلاط حَرَم هذا الأخير أكثرية ثلاثة أرباع أعضاء مجلس النواب ، وهي الأكثرية اللازمة لتقصير ولاية رئيس الجمهورية اميل لحود. لا شك في ان بقاء لحود رئيساً يوسّع هامش المناورة أمام عون وسائر خصوم الحريري وجنبلاط.
· ثمة توافق ضمني بين جميع الكتل النيابية الكبرى ، بما فيها تكتل عون ، على عدم الإنزلاق إلى مطلب أميركا وفرنسا تجريد حزب الله من السلاح. هذا سيؤدي بالضرورة إلى التركيز على هدف آخر هو، في الواقع ، إستحقاق مزمن : المحاسبة ووقف الهدر ومحاربة الفساد. في هذا المجال ، ثمة فرصة واعدة لتعاون مثمر بين تكتل نواب حزب الله وتكتل نواب عون على نحوٍ قد يكون محرجاً لتكتل الحريري- جنبلاط.
هذه المفاعيل السياسية الثلاثة ستفضي ، بالضرورة ، إلى طرح مسألة بالغة الأهمية في الحاضر والمستقبل المنظور. انها مسألة توليد فئة حاكمة جديدة ترث الفئة السابقة التي حكمت البلد نحو 15 عاما في ظل الوصاية السورية ، الأمنية والسياسية . لقد حاول جنبلاط إستدراج عون قبل الانتخابات إلى الإنخراط في مشروع الفئة الحاكمة الجديدة دونما طائل . مردّ الإخفاق ، ظاهرا ، إلى عدم الإتفاق على "حصة " عون في قوائم المرشحين للانتخابات. لكن السبب الحقيقي كان عدم الإتفاق على أولويات العمل السياسي في المرحلة المقبلة.
بعد فوز عون اللافت سيتجدد الحوار حول مسألة الفئة الحاكمة الجديدة واولوياتها الأكثر إلحاحا. يبدو ان جميع الأطراف لهم مصلحة في الاتفاق. عون يتطلع إلى رئاسة الجمهورية لتنفيذ برنامجه ، وهو يعلم ان وصوله إليها مشروط بتوافقـه مع اثنين على الأقل من تكتلات أربعة وازنة: الحريري، جنبلاط ، حزب الله ، حركة أمل . جنبلاط والحريري يهمهما قيام فئة حاكمة متماسكة لمنع النظام الأمني السوري – اللبناني القديم من العودة . حزب الله وحركة أمل حريصان على حماية سلاح المقاومة ، وهو أمر يتطلب دعم عون وجنبلاط والحريري أو ، على الأقل ، عدم انخراطهم في مجهود معادٍ للمقاومة وسلاحها. بري يتطلع إلى تجديد إنتخابه رئيساً لمجلس النواب ، والحريري يرنو إلى وراثة أبيه في رئاسة مجلس الوزراء . هؤلاء جميعاً لهم مصلحة ، اذاً ، في التوافق على توليف فئة حاكمة جديدة تحل محل الفئة الحاكمة الذاوية وتحظى بدعم سلطة الوصاية الدولية .
لعل أميركا وفرنسا هما الجهتان الأكثر حاجـة (وإلحاحا) لقيام فئة حاكمة جديدة .. إن كلاّ منهما مشغول بمشاكل وهموم أخرى لا يستطيعان معها الإنغماس في الشؤون اللبنانية إلى ما لا نهاية . فأميركا مشغولة بالهمّ العراقي والهمّ الفلسطيني ، وفرنسا بالهمّ الأوروبي ناهيك بالهم الداخلي. لذا يريدان إجتراح صيغة سياسية عملية وقابلة للحياة في لبنان. هذه الصيغة أشبه ما تكون بصيغة نظام المتصرفية الذي أدارت بواسطته دول الوصاية الأوروبية ، بالتعاون مع السلطنة العثمانية ، في القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين شؤون سنجق جبل لبنان بعدما أخرجته ( وكانت أدخلته ) من حمأة فتنة 1860 الطائفية . في نسخته المنقحـة والمزيدة ، سيكون لكلٍ من زعماء الطوائف الأربعة الكبرى في نظام المتصرفية الجديد حصة متفق عليها في الدولة وذلـك تحت رقابة ( حتى لا نقول وصاية ) قناصل ، عفوا سفراء ، أميركا وفرنسا والاتحاد الأوروبي ومندوب أمين عام الأمم المتحدة. غني عن البيان ان ترتيبا سيُتفق عليه ايضاً كي "يتصرف" كل زعيم بحصته ولا يتعداها للتصرف بحصة غيره !
نظام المتصرفيـة الجديد هذا قد يستهوي معظم زعماء الطوائف الأربعة الكبرى ولكن ليس كلهم . العماد عون لن يقبل به كصيغة دائمة. سيحاول إقنـــاع " الباب العالي " الجديد بأن تكون الصيغة انتقالية . منها ينتقل لبنان ، بتوافق قواه الحيـة ، من دولة الطوائف إلى دولة القانون والمؤسسات والديمقراطية والعدالة والتنمية . السيد حسن نصرالله سيسلك، على ما يبدو، الطريق نفسها انما إنطلاقا من إثارة القضايا الاجتماعية ومعالجتها . أعلن ذلك بصراحة في خطبته في بعلبك عشية الجولة الثالثة من الانتخابات . جنبلاط لن يعارض في المطلق نهجـي عون ونصر الله ، وربما يبادر إلى اتخاذ مواقف أكثر إيجابية .
المهم ان يدرك هؤلاء الزعماء ان أياً منهم لن ينجح في مسعاه ما لم يسلّم بضرورة إشراك قوى الشعب من أحزاب وهيئات ونقابات ومنتديات وشخصيات مستقلة فاعلة في النضال المطلوب والموصول لبلوغ الأهداف المتوخاة . ثمة حاجة ، اذاً ، إلى جبهة وطنية ديمقراطية تنهض بموجبات هذا النضال وتصوّب مسيرته الطويلة.
من يبادر ، بين الزعماء أو من خارجهم ( وهذا أفضل ) ، إلى الاضطلاع بشرف الدعوة إلى هذه الجبهة ومباشرة بنائها مع مرديها؟