جورج حاوي لم يكن حاويا. لو كان كذلك لتفادى لسعة الأفعى القاتلة على مقربة من منزله في بيروت .
أفاعٍ كثيرة عاركها جورج حاوي في حياته السياسية وتغلّب على بعضها وتفادى سمّ بعضها الآخر . كان في عراكه مع أفاعي الاستعمار والرجعية والصهيونية شجاعا ، بارعا ومثابرا. لعله ابرز قائد شيوعي عربي في النصف الثاني من القرن الماضي. غير أن أفضل ما يحمد عليه ليس كل ما سبق ذكره ، بل كونه القائد الشجاع الذي أطلق، يوم كان أمينا عاما للحزب الشيوعي اللبناني مع رفيق نضاله محسن ابراهيم ، " المقاومة الوطنية " ضد الاحتلال الاسرائيلــي العــام 1982 . المقاومة الوطنية هذه سبقت " المقاومة الإسلامية " التي نظّمها وأطلقها حزب الله لاحقاً . صحيح أن المقاومة الوطنية لم تعمّر طويلا، الاّ أنها قامت بعمليات نموذجية وحظيت بلا ريب بقصب السبق. الأهم من ذلك ، اخترقت ركود حالة اللاسلم واللاحرب الرسمية ، وحالة القعود " الشعبية " وعبأت الجمهور اللبناني بشعارات المقاومة وجعلت له قضية وطنية .
جورج حاوي لم يكن قائدا يساريا ديمقراطيا لبنانيا فحسب بل كان أيضا قائدا عربيا. هو احد العناوين البارزة لحركة التحرر الوطني العربية . كان رفيق سلاح ياسر عرفات وكمال جنبلاط وجورج حبش ونايف حواتمه . كما تلازم مع المرحلة النضالية المعادية لأمريكا في ممارسة معمر القذافي.
بعد استقلاله عن الحزب الشيوعي أواخر التسعينات ، ثابر حاوي على نضاله من اجل الديمقراطية . هذا جعله في صدام مع النظام الأمني اللبناني – السوري الذي حكم لبنان بعد اتفاق الوفاق الوطني في الطائف ، كما مع الطبقة السياسية المتواطئة معه حتى درجة العمالة .. لعل أروع مواقفه السياسية تلك التي شَمَتَ فيها بهذه الطبقة بعدما " ترمّلت " بسقوط النظام الأمني . قال انها ، بتذللها له لقاء فتات المناصب والمصالح والمنافع التي منحها إياها ، تسبّبت في توسيع أطماعه وتعاظم قمعه وهيمنته الأمر الذي انعكس سلبا على لبنان وسوريا معا. غير أنها سرعان ما انبرت إلى هجائه والمزايدة على المعارضين الحقيقيين له فور سقوط رموزه !
من تكون الأفعى التي قتلت بلسعتها السامة المناضل اللبناني والعربي الكبير؟
في غياب الأدلة والشواهد الدالة على هوية الجهة الفاعلة ، لا بد من التساؤل عمّن تكون الجهة المستفيدة من تغييبه . في هذا المجال ، ثمة ثلاث نظريات . الأولى تتهم الموساد الإسرائيلي. الثانية تتشكك بفلول النظام الأمني . الثالثة ترتاب بجهاز امني سري تابع لحزب سياسي لبناني يميني معادٍ لسوريا.
بحسب النظرية الأولى ، تبدو إسرائيل صاحبة مصلحة في إستمرار الاضطراب السياسي اللبناني ورفده بإضطراب امني . ذلك يُبقي ملف القرار 1559 مفتوحا ، لا سيما البند المتعلق بتجريد حزب الله والمخيمات الفلسطينية من السلاح ، ويشجع القوى المعادية للمقاومة على ممارسة المزيد من الضغوط للوصول إلى نتائج ملموسة على هذا الصعيد . كما يعزز مساعي تأجيج الفتنة الطائفية .
بحسب النظرية الثانية ، فإن أصابع الاتهام تشير إلى فلول الجهاز الأمني اللبناني – السوري السابق . النائب الياس عطالله ، أميـن سر حركة اليسار الديمقراطي ، وكان زميلا لجورج حاوي في المكتب السياسي للحزب الشيوعي ، سارع إلى إتهـام " رأس النظام الأمني " – يعني رئيس الجمهورية العماد أميل لحود – بالجريمة النكراء . بات واضحا ان فريقا وازنا من أطراف المعارضة (السابقة ) يميل إلى اعتماد هذه النظرية . تردد انه فور الإعلان عن إغتيال حاوي تنادى بعض أطراف هذه المعارضة إلى عقد اجتماع للنظر في إمكانية تحميل ما تبقى من رمـوز " النظام الأمني " مسؤولية ما حدث والدعوة إلى إضراب عام وتنظيم تظاهرة أو إعتصام في محيط القصر الجمهوري . الغاية من هذه التحركات كانت واضحة : إحياء مسألة الضغط على الرئيس لحود للاستقالة قبل إجراء الاستشارات الملحوظة في الدستور لتأليف حكومة جديدة. لكن رئاسة الجمهورية ردت بعنف على عطالله وأقرانه وأكدت أن لا إشراف للحود على الأجهزة الأمنية الخاضعة بحكم القانون للسلطة السياسية ( وزارة الداخلية ) .
بحسب النظرية الثالثة ، فإن محط الإرتياب هو جهاز الأمن السري لأحد الأحـزاب السياسية اليمينية المعادية لسوريا . هذا الحزب يهمه تحميل الأجهزة الأمنية ، حتى بعد ان أقصى قادتها ، مسؤولية مسلسل الجرائم الوحشية بغية تعبئة الرأي العام وراء مطلب إعادة هيكلة الجيش وسائر الأجهزة الأمنية المتهمة بالتقصير. ذلك يضمن " تنظيفها" من العناصر الممالئة لسوريا. مثل هذا العمل يمهّد لمشروع قيد الإعداد يرمي إلى نشر وحدات من الجيش اللبناني على طول " الخط الأزرق" بين لبنان وإسرائيل . بذلك تصبح عمليات حزب الله تحت رقابة الجيش ، بل يسهل تعطيلها قبل مباشرتها.
مهما يكن الأمر ، فإن ثمة نتيجة ستتولد عن إغتيال حاوي أياً كانت الجهة الفاعلة أو المستفيدة . إنها توليد حالٍ من البلبلة والإضطراب الأمني تؤدي إلى تنفير السياح والمصطافين – وهم مورد وفير العطاء – ما يحمـل أمريكا وفرنسا وبريطانيا ، وهي دول الوصاية الجديدة ، على زيادة ضغوطها من اجل فرض حكومة قادرة على إتخاذ تدابير أمنية واقتصادية غير شعبية.
لبنان ما زال في عين العاصفة . الانتخابات النيابية التي جرت مؤخرا لم تؤدِ إلى تنفيس الإحتقان والتوتر اللذين ما زالا يعتملان في النفوس ، ناهيك بحل الازمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية المستفحلة . لعل الإنتخابات والنتائج التي انتهت إليها وبعض الفائزين والراسبين فيها جزء من ملابسات الجريمة النكراء التي ذهب ضحيتها جورج حاوي. ذلك ان لبنان دخل ، بمعنى من المعاني ، مرحلة جديدة عنوانها إعادة تكوين السلطة . وهي مرحلة عصيبة يكثر فيها اللاعبون والطامعون وتجد فيها دول الوصاية فرصة نادرة لإيجاد الصيغ السياسية اللازمة لتنفيذ أجندتها في المنطقة ..
الأفعى التي قتلت جورج حاوي ما زالت تتغلغل في الحنايا والزوايا وتترصد الأحرار.