من أفغانستان وحتى فلسطين.. يعلو ضجيج الغاضبين على ما جاء بمجلة أميركية من امتهان للمصحف الشريف وإلقاء نسخ منه في المراحيض كوسيلة لاستنطاق الأسرى بمعتقل (غوانتانامو) سيء الذكر. هذه الغضبة الشعبية، وإن كانت مفهومة ومبررة، إلا أنها تعبر كذلك عن الهبّات العاطفية التي تُسيّر الجموع المسلمة وتصوغ رأيها العام ليتلقفه المحللون والمراقبون المهتمون بالأجزاء الملتهبة من العالم.
المُتلقي المحايد، الذي شدته مظاهر الجموع الحانقة وهي تهتف بـ "الموت لأمريكا"، وتستغل المناسبة لتشعل النار في العلم الإسرائيلي بالمرّة، هذا المتلقي من حقه أن يتسائل عن (الموسمية) التي تُميز إنفعالات المسلمين في العالم؟ وعن معيار الكرامة المهدرة التي يبكونها؟ وكأن تقرير الـ (نيوزويك) المذكور كان القشة التي قصمت ظهورهم، وأكدت لهم بما لا يدع مجالاً للشك أن الجنود الأميركيين، في (غوانتانامو) وسواها، يسيئون للدين وينتهكون المقدسات، طوال أربع سنوات من الحملة الوقائية التي أعقبت الحادي عشر من سبتمبر!
التحقيق الصحفي الذي فجّر ردات أفعال رسمية وشعبية واسعة النطاق يظل غير مستند لأدلة ملموسة. والجريمة المهولة التي يوردها وتقشعر الأبدان لمجرد تخيلها قوبلت من قبل قيادة الجيش الأميركي بفتح تحقيق يتجه فيما يبدو لنفي وجود ما يثبت زعم المجلة. ليس من شك في أن الموضوع سيقفل على نحو ديبلوماسي ما؛ وإن كان المسلمون قد أبدوا على كلٍ رأيهم واضحاً في مجرد ورود احتمال بتنديس قرآنهم عبر مظاهرات حاشدة هنا وهناك.. كانت نتيجتها أعظم كارثية من الحدث ذاته.. إذ ذكرت المحطات الإخبارية سقوط سبعة قتلى بها -في أفغانستان تحديداً- قبل أن ينتقل مذيعوها ببرودهم المعهود للخبر التالي!!
هذا التعامل الهزلي مع القيمة الإنسانية للفرد ككائكن مُكرّم في مقابل التقديس المطلق لـ (الرمز) ولأداة لتكريم هو ما يفجر الذهول والاستغراب لدى المراقب لحال الجموع المسلمة، التي تستثيرها أحداث من قبيل هدم المساجد وتدنيس المصاحف، وهي جرائم لا يسكت عنها، لكن مقابل ردود فعل باهتة حيال أفعال أشنع وأفظع تتعرض للإنسان ذاته وتنتهك آدميته وأبسط حقوقه البشرية. فجلادوا (غوانتانامو) قبل أن يدنسوا المصحف الشريف قد دنسوا إنسانية مساجينهم الراضخين لأقسى ظروف اعتقال في التاريخ بمعتقل (أشعة إكس) الذي يوحي اسمه برغبة زبانيته في اختراق ستر العقل والنفس والوصول لمكنون المعلومات التي يحتفظ بها خمسمائة وعشرون من تعيسي الحظ الذين لا يدرك كثير منهم فيم يسجنون.
وقبل أن تنشر (النيوزويك) تقريرها مدار المساءلة، كانت المنظمات الحقوقية العالمية تنشر تقارير مصورة للمارسات الحيوانية بحق معتقلي (إكس راي) من قبيل حبسهم بالأيام في زنزانات لا تتعدى مساحتها الأمتار الثلاث، وحرمانهم من الحركة بل الوقوف وقضاء الحاجات أحياناً. مع فرض عزلة تامة على حواسهم بإبقاء رؤوسهم داخل الأكياس وتكبيلهم وهم داخل الأقفاص ومنعهم من الكلام أياماً مما أثر على استقرارهم العقلي ودفع بعضهم لمحاولة الانتحار. ثمة تقارير موثقة تعترف بتوظيف محققات عاريات عند استجواب المساجين الذين لم يشاهدوا بشراً لأسابيع وذلك لأجل (زعزعة) ثقتهم ودفعهم للاعتراف الفوري. هذه الممارسات قد تتضاءل في مقابل ما أثبتته صور (أبي غريب) التي صعقت العالم لأكوام المساجين العراة المتكدسين كاللحم والمربوطين كالكلاب، والتي يؤكد مراقبون استمرارها للآن وإن بوتيرة (أخف)!
الرأي العام المسلم رفض وشجب بالطبع حال معتقلي (غوانتانامو).. ثم نظّم مظاهرة أو اثنتين تعاطفاً مع سجناء (أبي غريب).. وبين الهبتين كان يهدأ متربصاً بدليل مؤامرة جديد. لكن ردة الفعل تجاه امتهان القرآن في (غوانتانامو) تظل هي الأقوى والأكبر.. وتظل الأصدق تعبيراً عن الانتكاس الذي يعانيه وعينا الجمعي الذي لا يزلزله قمع العقل ولا إهراق الدم بقدر ما يستثيره هدم جدار مسجد، ولا يتمتع تحته الإنسان بنصف التقديس الذي يحظى به القرآن وقد أنزل أصلاً ليكرم هذا الإنسان وليكرس قيمته الحقيقية على هذه الأرض. هو ذا ما تثبته الغضبة الغوغائية للمتباكين على كتاب الله في مظاهرات أفغانستان، حين عبّر ما بين 5 الى 10 آلاف شخص عن احتجاجهم على ممارسات أمريكا بمهاجمة مكاتب الأمم المتحدة، ومقر الحاكم الاقليمي، وقنصلية (الباكستان) ليشعلوا فيه النار وينهبوها.. وليتسببوا في مقتل سبعة من البشر المسلمين المعصومين الذين لم يجدوا من يتظاهر لأجل دمائهم! مكررين من حيث لا يدرون النهج الذي تبناه البعض يوماً ليبرر قتل أربع آلاف نفس.. متذرعاً بفقه (التترس).. كي يوصل رسالة عمياء.. ويثبت رؤية خرقاء! نفس التدين المتمحور حول (الرمز) قاد فتىً عربي الأصل ليقتل مخرجاً هولندياً تجرأ وصور آيات من القرآن منقوشة على أجساد بعض العارضات.. في الوقت نفسه الذي تزخر فيه مواخير أوروبا بفتيات يفترض أنهن مسلمات.. يسوقهن سماسرة عرب.. و(مسلمون).. لم يجدوا من يهب بحميته في وجوههم.
هذا الفهم للدين، المغرق في الشكلية والعاطفية، كان وبالاً منذ أيام (نابليون) الذي تعمم ولبس الجبة والقفطان وتكلم بالشهادتين ليجلس إليه عندها.. وعندها فقط.. شيوخ الأزهر ويناقشوا وضع السلاح. ثم ليكرر التاريخ نفسه فيما الجموع تتظاهر بعد قرون ضد الإحتلال الإنجليزي وتهتف بحياة (الحاج محمد هتلر)! وهي الفكرة التي تُوجه بعض (المصلحين) اليوم حين يروجون الإشاعات ضد المغنيات والراقصات تعرضهن للإسلام كي تكسد أسواقهن لدى الجمهور (الأبيّ).. وكأن انتهاك قدسية العقل والجسد الذي تمارسه تلك الفنانات لا يفي بذلك الحق.
لأن التاريخ يكرر نفسه، فإن زوبعة تدنيس القرآن هذه ستهدأ بعد أيام على الأرجح، أياً كانت نتائجها، لتحل محلها عناوين أخرى في ترويسة الأخبار. وستعود جموعنا الغاضبة إلى عرينها بعدما أرت العالم قدر ما يسعها أن تثير من الشغب. بينما تواصل الجماهير بمن فيها مقهورين ومأسورين حياتها الاعتيادية إلى أن يعيد تقرير صحفي أو صورة ما تذكيرنا بالمحاولات المستميتة للنيل من ديننا، وتراثنا، وتقاليدنا.. إلا آدميتنا.. التي نتكفل نحن بتهميشها.