يسمّون حاضرنا عصر التكنولوجيا . يقولون ان عصر الايديولوجيا ذوى مع أفول الاتحاد السوفياتي . يؤكدون مقولتهم بثقة تحاكي من يُجري عملية حسابية : واحد زائد واحد يساوي اثنين . ألم يطلق فوكوياما حكمه المبرم لهذه الجهة في " نهاية التاريخ " ؟ لكن التاريخ الذي نسب إليه فوكوياما وأمثاله أحكاما لم ينطقها ، يروي حقائق مغايرة . ففي كتابه الرائع " التاريخ الشعبي للولايات المتحدة : من 1492 إلى الآن " يستخلص هوارد زن ، المؤرخ الأميركي الجريء ، حقيقةً ذهبية : " عندما حاربت الولايات المتحدة في فيتنام كانت تمثّل التكنولوجيا الحديثة المنظمة في مقابل البشر المنظّمين ، وانتصر البشر".
أجل ، " بذلت أعتى وأقوى دولة في التاريخ " ، يقول زن ، " اكبر جهد عسكري لم تنقصه سوى القنابل النووية كي تهزم حركة ثورية قومية في بلد زراعي صغير، وفشلت".
فشلت لأن " البشر المنظمين" في مواجهتها كانوا مسلحين بما هو أفتك من أدوات التكنولوجيا. كانوا مدججين بأسلحة الايديولوجيا. أليس هذا ما يحدث الآن في عالمنا العربي والإسلامي ؟
الايديولوجيا ليست دينا. ثوار الفياتكونغ في فيتنام كانوا قوميين ثوريين. بعضهم كان شيوعيا ، صحيح . لكن الشيوعية ليست دينا بقدر ما هي ايديولوجيا كما غيرها من الايديولوجيات ، بمعنى منظومة من الرموز والمفاهيم والمعاني والمعايير والمسالك ، يفسر بها الناس ( والثوار ) الأحداث من حولهم ، ويضعونها في مكانها من سياق همومهم الحياتية الآنية ، ويستلهمونها في سعيهم إلى مستقبل أفضل.
الإسلام ينطوي بالتأكيد على ايديولوجيا، لكنه أوسع وأغنى وأقوى بين أتباعه من الإيديولوجيات السائدة. ومع ذلك فإن ثمة إيديولوجيا بل إيديولوجيات إسلامية وغير إسلامية يعتنقها المجاهدون والمقاومون والمناضلون الذين يقاتلون قوات الاحتلال الصهيوني في فلسطين والأميركي في العراق . هذه الايديولوجيا أو الإيديولوجيات تنطوي ، في معظم الأحيان ، على أهداف مثالية وحوافز مادية ، تلهب حماسة معتنقيها وتمدّهم بطاقات متجددة للبذل والتضحية . ذلك ان " الإيديولوجيات الأكبر طاقة على التعبئة " ، كما يقول مكسيم رودنسون " ، كانت دائما دعوات إلى القتال ، أو على الأقل إلى السبق . هكذا الإنسان – الإنسان الذي نعرفه والذي علينا ان نتعامل معه – يبذل أكثر نفسه ليسحق أعداءه أو ليسحق منافسيه ".
تتفاوت الغايات والوسائل بالنسبة إلى الثوار والمجاهدين والمقاومين والمناضلين قياسا على الظروف والتحديات التي يواجهونها ، والإيديولوجيات التي يعتنقونها. بعضٌ من تلك جليل ، وبعضها الآخر حقير. لذلك تتفاوت النتائج والفوائد والمصائر.
من هذه الزاوية يقارب هوارد زن وقائع التاريخ الأميركي مذّ رست مراكب كريستوفر كولومبس على شواطىء القارة الجديدة ، مدشنةً " بداية الغزو والعبودية والموت " ، وصولا إلى غزو فيتنام والعراق بدعوى إنقاذ الحضارة الغربية وتعميم الديمقراطية . فهو يربط بين سلوك مكتشفي الاميركيتين ضد السكان الأصليين والحروب الوقائية التي تشنها بلاده حاليا، مشددا على أن حروب أميركا العنصرية على ما تعتبره إرهاباً هي " مجرد كذبة تتجاهل حقيقة أن الحرب نفسها إرهاب ، وان دهم بيوت الناس واعتقالهم وإخضاعهم للتعذيب إرهاب ، وان غزو بلاد أخرى وقصفها لا يوفران لنا أمنا كاملا بل أمنا أقل ".
يستطرد زن : " بات واضحا الآن وعلى نحوٍ سريع ان العراق بعد التدخل الأميركي ليس بلدا محررا . لقد أصبح بلداً محتلا. صحيح أننا حررنا العراق من صدام حسين ، لكن لم نحرره من أنفسنا . تماما كما حدث العام 1898 عندما حررنا كوبا من الإحتلال الإسباني ، لكن لم نحررها من أنفسنا ". أليس معتقل غوانتنامو هو الشاهد الحي ؟
حتى جورج بوش ، في حربه العالمية على الإرهاب ، لا يكتفي باستخدام أحدث أدوات التكنولوجيا بل يجد نفسه مضطرا بعد إخفاقه وإخفاقها في سحق المقاومة وإنهاء عمليات العنف الدموي الأعمى ، إلى اللجؤ لسلاح الايديولوجيا. ففي مناسبة الاحتفال بعيد الاستقلال الأميركي مؤخرا قال بوش لمناصريه :" حين يكون العمل قاسيا، فإن رد الفعل ينبغي ألاّ يكون التراجع ، وإنما الشجاعة (...) فالأميركيون كانوا على الدوام حازمين لأننا كنا نؤمن على الدوام ببعض الحقائق : نعلم ان الحرية التي ندافع عنها هي لكل الرجال والنساء والى الأبد ".
هل اقنع بوش الأميركيين بهذا الكلام الخشبي ؟ ان آخر استطلاعات الرأي تشير إلى ان غالبيتهم لا توافـق على مسار الحرب ، بل تعتبر ان الحرب لا تستحق العناء المبذول من اجلها . أكثر من ذلك : قاطع حشد من المتظاهرين كانوا تجمعوا قرب مكان الاحتفال بوش مرددين :" كذب بوش .. هناك أشخاص قتلوا . نحـن ندعم الجنود وليس الرئيس" !
واضح أن بوش إستعار في كلمته الموجهة إلى مناصريه مفردات الايديولوجيا... أيديولوجيا الحرية والديمقراطية التي يدّعي ان بلاده ذهبت إلى العراق من اجل تعميمها. هو ما زال يعتقد ، كما غيره من المحافظين الجدد ، ان للايديولوجيا دورا محفزّا في " الحرب على الإرهاب " ، لكن هيهات . فالأميركيون الذين تؤرّقهم أشباح حرب فيتنام وتكلفتها الباهظة باتوا مقتنعين بان لا علاقة للحرية والديمقراطية بما تقوم به قواتهم في العراق ، وان تكلفة الحرب تجاوزت فوائدها ، وان أحداً لا يصدق الأكاذيب التي يطلقها بلا كلل سكان البيت الأبيض.
إن فشل بوش ومساعديه في إستخدام حوافز الايديولوجيا وعجزه عن الاستفادة من مبتكرات التكنولوجيا لحسم الصراع لا يشيران إلى نهاية وشيكة للحرب في العراق . فالرئيس الأميركي ، وإن كان توقف عن المكابرة وسلك مسلك برمجة المغادرة ، إلاّ انه لا يستعجل الخروج من المستنقع الذي يتخبط فيه. ثمة اعتبارات ومصالح ومواقيت عليه مراعاتها قبل ان يتظاهر بإعلان النصر تسترا على الإندحار المحتوم في قابل الأشهر والأسابيع.
يبقى ان يعرف حَمَلَة سلاح الايديولوجيا من المقاومين والمقاتلين ورواد العنف الأعمى في العراق ان وحشية قوات الاحتلال وإفتقارها إلى مسوّغات أخلاقية في حربها غير المشروعة على شعب العراق لا تبرر محاكاة العدو في سلوكه ومسالكه الشريرة.
مهما كانت الغاية نبيلة فإنها لا تبرر الوسيلة. لا يجوز الإمعان في كيل الضربات العشوائية لأن شعب العراق هو من يدفع الثمن . صحيح ان المستضعفين غير مستعدين لتلقي دروس من المحتلين في قواعد الأخلاق واحترام حقوق الإنسان وحقن دماء الأبرياء ، لكنهم مطالبون بان يفعلوا ذلك ضناّ بأرواح بني قومهم ، وحرصـا على قيم دينهم وعقائدهـم ، وتوخيـا للتفوق على العدو أخلاقيا وإنسانيا... التفوق بما هو رافعة في الصراع وأمثولة في الجهاد.