التصريحات التي أدلى بها الرئيس الأسبق أحمد بن بلة لقناة الجزيرة فيما يتعلق بشروط المصالحة الوطنية الشاملة والدخول الفعلي في مسار العفو الشامل،وإن كانت ترمي في حقيقتها إلى وضع أسس حقيقية لبناء مشروع المصالحة، خصوصا وأن هذه التصريحات جاءت من رجل له وزنه التاريخي، وله دراية كافية بموطن الداء الذي تعاني منه الجزائر لأكثر من عشر سنوات ، قد قلبت الموازين السياسية بالنسبة للنظام الرسمي الجزائري الذي ظل يردد على لسان وزير الداخلية اليزيد زرهوني بأن ملف الفيس (الجبهة الإسلامية للإنقاذ) قد طوي نهائيا وأن عودة الحزب إلى الواجهة من المستحيلات المليار،حتى تحت أي مسمى كان، وتحت أي ذريعة كانت، ويكفي تدليلا أن حركة العدل و الوفاء للدكتور أحمد طالب الإبراهيمي لاقت المنع من طرف وزارة الداخلية بجريرة العلاقة الحميمة بين طالب الإبراهيمي و الحزب المحظور الذي يقول عنه الرئيس الأسبق أحمد بن بلة بأن عودته من أهم شروط المصالحة الوطنية والعفو الشامل .
هذه التصريحات وإن لم تكن فعلا جديدة على مسامع كل جزائري، وهي نفسها التصريحات التي ظلت المعارضة الفعلية السابقة ترددها في كل مناسبة على مدار العشرية الدموية، بل تعتبر هذه الخرجة الجديدة من قبل الرئيس أحمد بن بلة لو كانت فعلا تطلعات الرسميين من السلطة الفعلية، عودة حقيقية لبنود ملتقى سانت إجيديو الذي قالت فيه السلطة الرسمية أنه مرفوض جملة وتفصيلا، ومنظميه خونة، باعوا الجزائر للنظام التيوقراطي على خلفية قبول الجبهة الإسلامية للإنقاذ اللعبة الديمقراطية.
لكن السؤال الذي يتوجب أن يطرحه كل مراقب للشأن الجزائري، وبخاصة وأن جهات تقول عن نفسها أنها ضمن لجنة العفو الشامل ،وهي لجنة غير رسمية، تؤكد على أن أحمد أويحيى نفسه يقف عقبة أمام المصالحة الوطنية والعفو الشامل، ما موقع هذه اللجنة غير الرسمية التي يرأسها أحمد بن بلة في محيط سلطوي يرى أن المصالحة الوطنية والعفو الشامل غير مرتبط بعودة الجبهة الإسلامية للإنقاذ، لأن الهدف من أول اندلاع الأزمة كان القضاء عليها ودحراه، وقبرها بالحياة؟.
فما يطرحه الرئيس أحمد بن بلة حسب رأي المراقبين هو سليل ما كان قد طرحه الرئيس عبد العزيز بوتفليقة باكورة اعتلائه سدة الحكم في 1999 كون إيقاف المسار الإ نتخابي في 1992 كان عنفا، قبل أن يعتبره هبة وطنية، إذا ما سلمنا بأن هذا الطرح في جوهره مرتبط أساسا بقناعة سلطوية حقيقية، وكان أحمد بن بلة يتحدث من موقع الذي يعرف ما ذا يقول، ويعرف الجهات السلطوية التي تقاسمه نفس الهم، ونفس الرؤية المستقبلية.
ولو دققنا في ما تناوله الرئيس الأسبق حول آليات تجسيد المصالحة الوطنية، كذهاب على سبيل المثال كل الوجوه التي شاركت في الأزمة، لأنه حسبه لا يمكن أن تكون هناك مصالحة وطنية بوجوه مخضرمة عاشت كل الحقب، وكل الفصول السياسية. فإننا نستطيع أن نعتبر من الآن أن رئيس الحكومة أحمد أويحيى من الرجال الذين يجب أن يرحلوا، ليفسح المجال للذين يؤمنون حقا بالمصالحة والعفو الشامل. وحتى وإن اعتبرنا أن كلام أحمد بن بلة عن ضرورة حضور الجبهة الإسلامية للإ نقاذ في المعادلة التي تعتبر إلى حد اللحظة متراجحة تحكمها التوازنات داخل سرايا الحكم، وتجاذبات أهل الحل والعقد فإن هذه الضرورة لم تعد مهمة إلى درجة أن الحزب نفسه لم يبق على بهرجه القديم، بحكم ما طرأ على الحزب من تشرذم على مستوى القيادة،التي معظمها تعيش الفرقة،وتفتقد إلى التواصل المستمر.
وربما تكون الصيغة التي أراد أحمد بن بلة أن يفردها بالنسبة لضرورة تواجد الجبهة الإسلامية للإنقاذ من بين المساهمين في حلحلحة الأزمة والوصول بمشروعي المصالحة الوطنية الشاملة، والعفو الشامل إلى بر الأمان، هو أن المرحلة التي وصلت إليها الجبهة الإسلامية للإنقاذ في تدهورها، وانقسام رؤى قيادتاه ليس فقط حول معالجة الأزمة التي هي معلومة الحل لدى كل عقل حصيف، وإنما على مستوى تسيير الحزب نفسه.
وقد تكون إشارات قائد الفصيل المسلح السابق الشيخ مدني مزراق بأنه عازم على إنشاء حزب يضم فلول أنصار الجبهة الإسلامية للإنقاذ، تدخل ضمن الطرح الذي يؤكد على أن الجبهة الإسلامية للإنقاذ انتهت كواقع سياسي، وبخاصة إذا ما علمنا بأن الشيخ مدني مزراق يعتبر بأن الجبهة الإسلامية للإنقاذ كحزب انتهى دوره، ويصفها بالسيارة التي ترهلت وانتهت ووجب أن ترمى في المتحف، ويتحتم على إثر ذلك البحث عن وسيلة نقل أخرى تؤدي نفس الدور.
والذي ينقل تفكيره عبر ما يصرح به قادة الإنقاذ يدرك مدى الفجوة السياسية التي يعانون منها، ونستطيع التأكيد على أن السلطة إذا ماكانت حقا عازمة على أن يكون لحزب الإنقاذ حضور في مسار المصالحة الوطنية الشاملة مستقبلا، وحتى تقيم الحجة أمام العالم ،فإنها تقوم بهذا الأمر إلا عندما تيقنت بأن الحزب لم يعد له كيان قائم، وهو مجرد بقايا أطلال ،وبقايا قيادة لا محل لها من الإعراب، وعندنا الشيخ عباسي مدني الذي سئل مؤخرا عن كتاب كتبه نائبه الأول علي بن حاج فرد بأنه لا علم له به، وهذا استدلال آخر على أن السلطة استطاعت أن تصل بالجبهة الإسلامية للإنقاذ إلى محطتها الأخيرة، وهي أن لا يكون لها معنى، إن غابت لا يسأل عنها ، وإن حضرت لا تستشار.
وجميع القيادة الإنقاذية تعرف هذا جيدا لكن لا تريد أن تصرح به، كما تعرف بأن تقوقعها حول أدبيات سياسية قديمة لا تؤخر ولا تقدم من المشكل الكبير الذي عاشته الجزائر وتعيش تداعياته حاليا،وتكون خرجة أحمد بن بلة غير الرسمية في أن شرط نجاح المصالحة الوطنية لا يكون إلا بتواجد الجبهة الإسلامية للإنقاذ ضمن معادلة الحل، تدخل في سياق ما يعرفه الجميع عن الجبهة الإسلامية للإنقاذ، وما أصابها من تفكك على مستوى التركيبة القيادية، وحتى القاعدية، وإن كان لها وقع عالمي على أنها ظلمت ظلما كبيرا بيد أنها لا تستطيع لو أردنا الحقيقة أن تساهم في الحل، لأنها ببساطة ملفها أغلق على المستوى الرسمي، والسلطة الفعلية لا يروقها رجوع البعبع الذي أرقها في ذات شتاء، ولو باسم المصالحة التي يروج لها بشكل غير رسمي الرئيس الأسبق أحمد بن بلة.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية