كما جرت العادة عند كل حادث إرهابي يسارع الجميع بلا استثناء تقريبا إلى استنكار هذا العمل المشين. جميل أن نستنكر هذا الإرهاب الذي حصل في لندن ولكن الأجمل من ذلك هو العمل على معالجة أسباب الإرهاب واستئصالها كي لا تظل ذريعة في أيدي الإرهابيين. لقد قال توني بلير اليوم بالذات علينا معالجة أسباب الإرهاب. ولكن ما نشهده على الساحة الدولية وما نسمعه من تصريحات، باستثناء تصريح لتوني بلير الذي أشار فيه إلى أنه لا تكفي المعالجة الأمنية وتجب معالجة أسباب الإرهاب، أنّ لا تغيير في سياسة الحرب على الإرهاب كما يراها الرئيس الأمريكي جورج بوش الذي ظل سادرا في غيه وماضيا في تبرير حربه على الإرهاب حتى في آخر تصريح له في أعقاب قمة الثمانية بعد أحداث لندن المؤسفة.

ما زال الرئيس الأمريكي جورج بوش، في آخر خطاب له في قاعدة فورت براج في ولاية نيويورك، على إصراره على مواصلة الحرب على الإرهاب للمرة الألف دون اكتراث للشعب الأمريكي الذي بدأ يتململ ويصحو من سكرته الأولى في الحرب على العراق. وعلى الرغم من تصريحات أركان إدارته مثل رئيس الأركان تارة ووزير الحرب تارة اخرى واعترافهم بصعوبة الموقف الأمريكي في العراق لا يزال الرئيس الأمريكي يبرر هذه الحرب بشكل فج وبغيض. وهذا الإصرار المبدئي من قبيل الكذب على الشعب الأمريكي المخدوع الذي تعود على السير وراء العلم الأمريكي ويتنبه إلى مخاطر هذا الانقياد الأعمى بعد تفاقم الأمور أو فوات الأوان. وحاول يربط المقاومة العراقية بهجمات 11 أيلول 2001. لقد كرر بوش الإشارة إلى أحداث أيلول خمس مرات في خطاب لم يتجاوز 28 دقيقة ألقاه على مسامع 750 جنديا. لقد سعى بوش يائسا إلى الحيلولة دون التراجع عن دعم الشعب الأمريكي للحرب في العراق وتعمد التشديد على وجود صلة بين 11 أيلول والحرب الضروس التي تخوضها إدارته على الإرهاب. لقد جاء خطابة مجرد تكرار للإسطوانة المشروخة المليئة بالمزاعم والأكاذيب القديمة المعروفة لدى القاصي والداني. كان الأجدر به أن يتحدث عن خطط جديدة يتم فيها مراجعة استراتيجية الحرب في العراق والحرب على الإرهاب بصورة عامة. مما دعا بعض المحللين السياسيين في جريدة (بوسطن غلوب) بأن يعنون مقاله (لقد سمعنا هذا من قبل) ويقصد بذلك ما كان يقوله الرئيس الأمريكي ليندون جونسون إبان الحرب الأمريكية في فيتنام. فما أشبه اليوم بالبارحة! تكاد تكون أوجه الشبه بين الحرب الأمريكية في فيتنام في الستينات من القرن الماضي والحرب في العراق متطابقة إلى حد بعيد. لقد بدأت الحرب على فيتنام باختلاق كذبة وأزمة خليج تونكين وكذلك الأمر تكرر في الحرب على العراق باختلاق كذبة أسلحة الدمار الشامل وارتباط النظام بتنظيم القاعدة وقد ثبت كذب الادعائين.

فالوضع في العراق لا يسر عدوا أو صديقا. فما يحصل يوميا يبرهن على أن العراق يتمزق أفقيا وعموديا ويغوص الأمريكيون في رماله المتحركة بكل إصرار وعناد ومكابرة. لقد أشرت في مقالة سابقة بعنوان "وصفة لحرب لا نهاية لها" إلى أن الإدارة الأمريكية التي يسيطر المحافظون الجدد على مراكز القرار فيها لم يشاءوا، سواء عن قصد أو غير قصد، أن يضعوا استراتيجية خروج واضحة من العراق عندما اتخذوا قرار الحرب فيها. لأنهم كانوا يتصورون أن الحرب ستكون نزهة ولقمة سائغة ومن ثم يعرّجون على دول الجوار ويلعبون لعبة الدومينو فتسقط سوريا وإيران وفي ذهنهم الهدف الأساسي "الأمن الإسرائيلي" فقط لا غير مهما كلف الأمر.

لقد ارتكب جيش الاحتلال والحاكم العسكري (بريمر) أبشع الأخطاء. لقد هدموا الدولة بكل أركانها وحلوا الجيش وأتاحوا الفرصة للعملاء والساقطين بأن يدمروا كل المعالم الثقافية التي تمثلت بالمتحف والمكتبة والجامعات وما إلى ذلك لهدم تاريخ العراق. وهمشوا قسما كبيرا من الشعب العراقي وشجعوا عملاءهم على ارتكاب الحماقات والجرائم والإساءة للأطراف الأخرى من الشعب العراقي. وتصورا أن العراق استكان وهان ووضعوه في حساباتهم البنكية. ولكن كما يقول المثل الدارج "لم تكن العتمة على قدر يد الحرامي" وبدأت المقاومة العراقية تنزل في جيش الاحتلال الخسائر الكبيرة. وكان رد فعل الاحتلال كما هو الحال عند نظيره الصهيوني في فنون الهدم والقتل والتدمير مما زاد من نقمة الشعب العراقي وصار المشهد قاتما ومؤلما للعراقيين ولعل ما حصل في المدن العراقية مثل الفلّوجة وسامراء والنجف الأشرف والرمادي والقائم وتلعفر وغيرها خير شاهد على بطش الاحتلال وأعوانه من المليشيات العراقية. وكان سجن أبوغريب مثالا صارخا على وحشية الاحتلال وإذلاله للمواطن العراقي. ولا يزال المسلسل مستمرا دون رؤية بصيص من نور في آخر النفق.

وللخروج من هذا المأزق لجأت الإدارة الأمريكية إلى تصدير أزمتها إلى دول الجوار وإلى مناورات سياسية هنا وهناك داخل العراق وخارجه.
أولا، لقد تم الإصرار على إجراء انتخابات تحت ظل حراب الاحتلال تم استثناء شريحة كبيرة من الشعب العراقي أملا في جلب استقرار سياسي للعراق. وجاءت الانتخابات بمجلس وطني وحكومة، أقل ما يقال فيها، أنه لا تمثل الشعب العراقي لأنها حكومة محاصصة طائفية. ولم يأت الاستقرار بل إزداد "الإرهاب" كما يصفه الاحتلال الأمريكي. وبات الشعب العراقي يعاني أكثر وأصبح على شفا حرب أهلية لا تبقي ولا تذر والإدارة الأمريكية تكابر وتكابر إلى أن وصلت إلى حد التناقض فيما بين قياداتها. فتارة رئيس الأركان يقول شيئا ووزير الحرب يقول شيئا آخر والرئيس ونائب الرئيس يقولان ما يحلو لهما متجاهلين آراء الآخرين.

ومن هنا بادر الاحتلال إلى سياسة خلط الأوراق داخل العراق وخارجه. فليس من المستبعد أن يكون للاحتلال الأمريكي الباع الأطول في إشاعة الفوضى في العراق وخلط الأوراق والقيام بعمليات تشويهية للمقاومة السليمة ضد الاحتلال لزرع الفتنة والشقاق ما بين أطياف الشعب العراقي وخاصة بين الشيعة والسنة.

ثانيا، أما وقد انفض سامر الانتخابات وتم تنصيب حكومة حسب إرادة الاحتلال واستمرت المقاومة، لجأت الإدارة الأمريكية إلى إلقاء التبعة على دول الجوار سوريا وإيران بالتحديد. فعلى سوريا حماية حدودها المترامية مع العراق في الوقت الذي تعجز الدولة العظمى في حماية حدودها مع المكسيك مثلا من تسلل المهاجرين. لم يكن ذلك إلا ذريعة لصرف الأنظار عما يدور في العراق وبعد الشعور بالعجز عن مواصلة الحرب على سوريا كما خطط المحافظون الجدد. تغيرت لغة التهديد المباشر وكفت الإدارة عن ذكر الحرب الاستباقية وأطلقت بدلا من ذلك ما أطلق عليه "الفوضى الخلاقة". ومن هنا تمت سياسة خلط الأوراق وإشاعة الفوضى في العراق وفي لبنان كما يأتي لاحقا. وعادت الإدارة الأمريكية إلى الأمم المتحدة بالتعاون مع الدول الأوروبية لاستصدار قرارات دولية لإجبار سوريا على الخضوع للعبة الأمريكية – الصهيونية في المنطقة. فكان استصدار قرار 1559 الذي كان للكيان الصهيوني ولبعض اللبنانيين الباع الطويل في استصداره والذي جاء بعد قانون محاسبة سوريا في الكونغرس الأمريكي من قبل لفك وحدة المسار السوري اللبناني.

ومن هنا لا بد من أحداث كبيرة تهيئ لتنفيذ مثل هذه القرارات الأممية. فكان اغتيال الرئيس رفيق الحريري، والذي نعتقد أن اغتياله جاء في سياق سياسة "الفوضى الخلاقة"، القشة التي قصمت ظهر الوحدة الوطنية اللبنانية بمبادرة فريق من اللبنانيين الذي وجه التهمة لسوريا مباشرة مما هيأ الأجواء لانسحاب الجيش السوري من لبنان وهو البند الأول في قرار 1559. أما البند الثاني فكان الإصرار على إجراء الانتخابات النيابية في لبنان في موعدها كما حدث في العراق. وأجريت الانتخابات وكان ما كان فيهامن طائفية واضحة ورغم ذلك جاءت التحالفات الانتخابية والسياسية على خلاف ما تشتهي الإدارة الأمريكية. لقد تمت التحالفات في معظمها على قاعدة حماية المقاومة والتمسك بسلاحها وهو الأمر الذي يعني قرار 1559 الذي ينص على تجريد المقاومة ممثلة في حزب الله من سلاحها.

وبعد كل هذا الضغط على سوريا المتواصل لا تزال سوريا على صمودها وممانعتها للهيمنة الأمريكية الصهيونية المطلقة في المنطقة. وتعززت هذه الممانعة وكذلك المقاومة الإسلامية في لبنان بنتيجة الانتخابات الرئاسية الإيرانية حيث تم انتخاب الرئيس أحمدي نجاد الذي يعتبر من أشد المناصرين للمقاومة.

ثالثا، أما على الساحة الفلسطينية فقد شهدت الإدارة الأمريكية تراجعا كبيرا حيث اكتفت بالمضي وراء خطة شارون القاضية "بالانسحاب" من قطاع غزة وتناست خطة الطريق وكل الاتفاقيات الأخرى على أن تسوق الانسحاب من غزة على أنه إنجاز عظيم لها. وجرّاء تخبط الإدارة الأمريكية في ملف القضية الفلسطيني ازداد إصرار الشعب الفلسطيني على المقاومة وظهر تأييده غير المسبوق لمشروع المقاومة إبان الانتخابات المحلية في الضفة والقطاع مماجعل السلطة الفلسطينية تسارع إلى تأجيل الانتخابات التشريعية بموافقة مباشرة من الإدارة الأمريكية وهي المصرة دائما على إجراء الانتخابات في مواعيدها كما حصل في العراق ولبنان.

نتيجة لما سبق، نشاهد ظاهرة انحسار تيار المحافظين الجدد إلى حد كبير في الإدارة الأمريكية ومراكز الدراسات التي تصدر الاسترايجيات والأفكار والسياسات للبنتاغون. فمثلا لم نعد نسمع لهجة التهديد بشن الحروب الاستباقية وتغيير العبارات والخطابات بين المحافظين الجدد وانحسار قوتهم حتى أصبح الرئيس بوش غير قادر على تنصيب مرشحه جون بولتون في الأمم المتحدة.

وتبعا لذلك ستجد الإدارة الأمريكية نفسها مرغمة على تغيير استراتجيتها في العراق جرّاء تصاعد وتنامي مطالبات ودعوات أوساط كثيرة من الشعب الأمريكي، بعد اكتشاف زيف إداعاءات هذه الإدارة وتبين لهم أنهم انساقوا وراء كذبة كبيرة. فمثلا تشكلت مجموعة من خسمين نائبا في الكونغرس أطلق عليهم "تجمع من أجل الخروج من العراق" في منتصف حزيران الماضي. وهذه محاولة للضغط على بوش وإدارته لإنهاء الاحتلال وعودة قوات الاحتلال إلى ديارها.

وإذا حصل الانسحاب كما تبدو الأمور عليه تقول هيلين كوبان المحللة السياسية المعروفة في أبعاد الانسحاب القادم: "لقد بات واضحا أن الوضع الأمريكي في العراق غير مريح. ولهذا علينا أن نتنبه إلى النتائج المحتملة جرّاء انهزام أمريكا الذي سيبدأ بالظهور إبان الأشهر القليلة القادمة."

وليس من المستبعد أن نصحو ذات يوم، نتمنى أن يكون هذا اليوم قريبا لحقن الدماء، وقد تغيرت الإستراتيجية الأمريكية وينتهي الأمر بتسليمها بحتمية الخروج من العراق وإن لم يكن ذلك، قد تلجأ الإدارة إلى ترتيب الأوضاع إقليميا بحيث تخرج القوات إلى قواعد في الدول المجاورة وتكتفي بإدارة الصراع من خارج العراق بالتعاون مع حكومة موالية. وفي كلتا الحالتين ينتهي الأمر بالتسليم بالهزيمة التي ستؤدي إلى نتائج كبيرة من أهمها بأن الولايات المتحدة لن تقدم على مثل هذه المغامرة التوسعية لثلاثين سنة قادمة كما كان الأمر بعد خروجها من فيتنام.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية