أميركا تعرف ما تريد عمله. لكنها لا تعرف، أحيانا، كيف تعمله أو، غالبًا، ما ينجم عنه ويترتّب عليه. أليس هذا ما حدث في العراق، ويحدث الآن في لبنان ؟
احتلت أميركا العراق وأسقطت نظام صدام في ستة أسابيع. لكنها لم تتحسب، كما بات واضحا، لما يمكن أن يحدث في " اليوم التالي " لإنجاز الاحتلال ولا، بطبيعة الحال، لكيفية مواجهة ما يحدث. أعلن جورج بوش مزهوا " انتهاء العمليات العسكرية الرئيسة " مطلــع أيار 2003، مستخدماً تعبيرا ملطفاً عن انتهاء الحرب وإعلان النصر. لكن بعد اقـل من أسبوعين اندلعت المقاومة العراقية وتصاعدت بوتيرة متسارعة وما زالت. هل يعرف بوش ما ينتظر قواته من عمليات وصدامات وقتلى وجرحى يوم غد ؟
في السياسة ، كما في الحرب ، لم يتحسب بوش لتحديات اليوم التالي. فلا هو ( ولا رَجُلُه بول بريمر) توقـع ردود فعل العراقيين على تركيبة مجلس الحكم الانتقالي، ولا تمكّن من محاصرتها. ولا هو توقع المعارضة الواسعة لتعيين حكومة أياد علاوي المؤقتة ولا نجح في مواجهتها. ولا هو أدرك عمق الأزمة الناجمة عن مقاطعة ثلث الشعب العراقي للانتخابات مطلع العام الحالي، وللحكومة التي انبثقت منها بعد نحو أربعة اشهر على انتهائها، ولا هو استطاع معالجتها. ولا هو أحاط بأسباب اتساع رقعة المقاومة جغرافيا وعمليًا ولا هو نجح في التغلب عليها.
أميركا قادرة وقديرة وأحيانا باهرة في البدايات، لكنها نافذة الصبر ومتعثرة وغالبا متعجلة الانكفاء في النهايات.
من يبتغي مثالا آخر على ما لاحظناه، لينظر إلى لبنان، إلى تجربة أميركا (وفرنسا) في بلاد " ثورة الأرز" كما تسميها .
أين الثورة الواعدة ؟ أين أبطالها ؟ أين إنجازاتها الموعودة ؟
هل صحّ رهانها على مجموعة متنافرة من لاعبين هواة ومحترفين، في بلد يحتضن مجتمعا تعدديا بالغ التعقيد ؟
هل كان قرارها مدروسا وموزونا بالإصرار على إجراء الانتخابات في موعدها المقرر بأي ثمن ومهما كانت التحديات ؟
هل أدركت المخاطر والذيول الناجمة عن اعتماد قانون العام 2000 للانتخابات بعدما جاهر الجميع بظلمه وفساده وضرورة الاستعاضة عنه بآخر يؤّمن صحة التمثيل الشعبي وعدالته ؟
هل تحسبت للمخاطر الناجمة عن ترك التناحر الطائفي والمال السياسي يلعبان دورا استفزازيا في هذا المنعطف الخطير من تاريخ لبنان ؟
لا يبدو أن أميركا تحسّبت لتحديات اليوم التالي في جميع تلك الرهانات والقرارات والحسابات. لقد بدا المشهد اللبناني في اليوم التالي لتلك النشاطات والتطورات قاتما ومقلقا لدرجة دفعت بعض قادة الرأي إلى الاعتقاد بأن أميركا فعلت ما فعلت متعمدةً ولمقاصد معلومة.
ليس من قبيل الخطأ في الحساب أو القصور في التحسب اعتماد قانون الانتخابات للعام 2000 بعدما تجلّت نتائجه على أبهى ما يكون، فسقط أو أُسقط أوادم المرشحين ونجح أو أُنجح أسوأهم وأكثرهم انغماسا في لعبة المال والطائفية. ألا يوحي ذلك بأن المطلوب في انتخابات العام الحالي سقوط أو إسقاط الطيبين، وفـــوز أو " تفويز " الفاسدين ؟
ليس من قبيل الخطأ في الحساب أو القصور في التحسب الإصرار على إجراء الإنتخابات في عزّ إنفجار مشاعر الغضب والسخط نتيجةَ إغتيال الرئيس رفيق الحريري، وتفجير أسواق تجارية ومراكز صناعية وأبنية سكنية في مناطق مسيحية . ألا يوحي ذلك بأن المطلوب في انتخابات العام الحالي إلغاء عقول الناخبين وتحكيم عواطفهم وغرائزهم ودفعهم تاليا إلى خيارات متطرفة أبعد ما تكون عن قواعد الوحدة الوطنية ومتطلبات الإصلاح السياسي والاقتصادي والإداري ووقف الإهدار ومكافحة الفساد ؟
ليس أدل على النتائج السيئة التي نجمت عن الانتخابات من التصريحات التي نُسبت إلى النائب سعد الدين الحريري عقب اجتماعه إلى الرئيس جاك شيراك. فقد أكدّ الحريري انه وشيراك تلقيا نبأ اغتيال الأمين العام السابق للحزب الشيوعي جورج حاوي خلال اللقاء، وكان تعليقه الفوري " إن هناك موجة إرهابية مستمرة في سلسلة من الاغتيالات تحاول أن تُظهر للعالم أن ليس في إمكان لبنان إدارة نفسه بنفسه وخصوصا في ظل الشحن الطائفي ..." . كما كشف الحريري " انه سمع مجددا من الرئيس الفرنسي فحوى رسالة الأسرة الدولية أن تكون في السلطة شخصيات بعيدة كل البعد عن الفساد ".
يستفاد من هذه التصريحات أن شيراك، وربما أعضاء الأسرة الدولية أيضا، مقتنعون بأن لبنان ما زال ضحية الاغتيالات والشحن الطائفي قبل الانتخابات وبعـدها، وان ذلك يُظهر للعالم بأنه عاجز عن إدارة نفسه بنفسه، وان الانتخابات جاءت برهط جديد من الفاسدين الأمر الذي يقتضي الحرص على اختيار وزراء للحكومة الجديدة من بين شخصيات بعيدة كل البعد عن الفساد .
هذا التقويم القاتم للوضع اللبناني إن هو الاّ نتيجة منطقية لخيارات وإملاءات أميركية جرى فرضها على لبنان ، فكان ان " أثمرت " الانتخابات كل هذه الثمار الفاسدة. هنا يلح سؤال: هل حدث ما حدث نتيجة حسابات أميركية مدروسة جرت ترجمتها إلى سيناريوهات مثيرة من 14 شباط الماضي (إغتيال رفيق الحريري) إلى انتخابات 29 أيار الماضي مرورا بالتظاهرات والمسيرات والتفجيرات والاغتيالات التي سبقتها وأعقبتها؟ أم أن ذلك كله، بعجره وبجره، جاء نتيجة قصور في التوقع والتحسب لما سيكون عليه اليوم التالي ؟
أياً يكن الجواب ، فإن النتيجة تبقى هي ذاتها: ثمة أحداث وتطورات تتلاحق على نحوٍ يؤدي إلى نشؤ حال من " الفوضى الخلاّقة " التي طالما بشرنا بها جورج بـوش. وهي حال تفضي، كما قال سعد الدين الحريري بعد خروجه من لقاء شيراك إلى "عجز لبنان عن إدارة نفسه بنفسه".
هل يعني هذا الكلام غير أن لبنان مهدد بانهيار سلطته المركزية تحت وطأة تجاذبات العصبيات الطائفية وفساد الطبقة السياسية ؟
إذا كان هذا الاحتمال واردا أو ممكنا ، هل سلسلة الاغتيالات التي تأخذ بخناق قياداته ورجالاته، والتفجيرات التي سبقتها وقد تلحقها، مجرد إرهاصات لقرار إستراتيجي تعتزم إدارة بوش اتخاذه عبر مجلس الأمن يقضي بنشر قوة دولية ( من دول أطلسية) في الربوع اللبنانية؟ وهل ستكون مهمة هذه القوة دعم السلطة المركزية في بيروت ومساعدتها على بسط سيطرتها على المناطق، أم أن مهمتها ستتجاوز ذلك إلـــى " التأكد " من إنسحاب أجهزة المخابرات السورية من البلاد ، ودعم الجيش اللبناني للانتشار على طول " الخط الأزرق " الفاصل بين لبنان وإسرائيل ، وربما " التكرم " بمزيد من الدعم لمساعدة الجيش اللبناني على " تسلّم " سلاح المقاومة ؟!
أسئلة تكاد تكون أجوبتها منها وفيها. وهي توحي، وربما تؤكد، أن ما جرى ويجري في لبنان جزء مما جرى ويجري في المنطقة، وان أميركا ما زالت لا تتحسّب لما سيحدث في اليوم التالي .