"لاينبغي أن تكون هذه الصالة في مواجهة العالم ولكن يجب أن تكون في مواجهة التاريخ والعدل والحق والقانون، إننا لسنا هنا كغربيين نحاكم الاسلام والشرق، يجب أن نحاكم التطرف وينبغي أن يعرف هؤلاء القوم أن هناك قانون عادل وقضاء نزيه وأن في العالم شيء آخر يستحق الاحترام غير شريعة الغاب الحاكمة في مناطق كثيرة من العالم ".
هذا بعض مما هتف به محامي أبو الدحداح في قضية تذكرنا بمحاكم التفتيش، لا يحاكم بها المتهمون وإنما يحاكم الإسلام وتحامكم فيها العروبة. أربع وعشرون متهمًا، معظمهم من أصل سوري، بعضهم مغربي، واحد اسباني باسكي، يجلس تسعة عشر منهم في غرفة زجاجية محصنة معدة لمحاكمة كبار المجرميين الدوليين، يجلسون على مقاعد من خشب لامساند لها، وعن يمينهم المدّعي العام في هذه القضية .
المتهمون الخمسة الباقون، كانوا يجلسون خارج هذه الفقاعة الزجاجية، ثلاثة منهم من رجال الأعمال السوريين المرموقين في اسبانية لم يتجاوز أكبرهم سنا الخامسة والأربعين، وطبيب سوري شاب ، وتيسيرالعلوني، كانوا جميعهم قد أفرج عنهم بكفالات مالية ضخمة، ولكن كان عليهم حضور جميع جلسات المحاكمة والمثول يوميا بين يدي أجهزة الأمن .
على يسار القاعة جلس المحامون والمحاميات في صفين وكان عددهم فوق الثلاثين، فيهم أكابر المحامين في مدريد من ذوي الأسماء المعروفة، وفيهم من كان مغمورا فأصبح بسبب هذه القضية أحد المشاهير، بعضهم دفعت إليه الملايين ليدافع عن بريء يعرف هو قبل غيره أنه بريء، آخرون لم يرضوا أن يقبضوا قرشا واحدة قبل أن تظهر براءة موكله لما يعرفه من عدم قدرة موكله على دفع تكاليف الدفاع عنه، بعض هؤلاء المحامين رجال فكر ومواقف سياسية وآخرون انقلبوا بسبب هذه المحاكمة فأصبحوا رجال فكر ومواقف.
المحامون الثلاثون يعلمون أن هذه محاكمة سياسية إعلامية مهما نفى القضاء والسياسة والاعلام هذا الامر، يقولون أنها محاكمة للاسلام والمسلمين وللوجود الاسلامي في اسبانيا وأوربا، استعملوا هذه الفكرة لدى مداخلاتهم للدفاع عن موكليهم، كلهم يسألون ماعلاقة دعم هؤلاء المتهمين لمنكوبي البوسنة وكوسوفا والشيشان بقضية الحادي عشر من سبتمبر ؟ كل هؤلاء القوم سوف يدخلون تاريخ القضاء العالمي بأنهم الرجال والنساء الذين وقفوا لسبب أو لآخر بشرف ومهنية وشجاعة فائقة إلى جانب الحقيقة يذودون عنها على الرغم من وقوف الدنيا بأسرها ضدهم في زمن "غوانتانمو" ، و"وأبو غريب" ،و"من لم يكن معنا فهو ضدنا" .
أحد هؤلاء المحامين كان مغمورا قبل "محاكمة العصر" هذه، وقف أمام قاضي التحقيق وخلع رداء المحاماة وقال له : لقد كفرت بالعدل والقضاء الاسبانيين .. بكى ..نعم لقد بكى محامي أحد المتهمين الأبرياء عندما أعيد اعتقال موكله دون وجه حق ولم تكن تهمة هذا الرجل إلا أنه ذهب يزور أهله في البوسنة بتكليف من والده عالم الدين الجليل السوري بوسني الأصل، فحمل إليهم الأدوية وبعض المساعدات في محنتهم .
هذا الرجل متهم كذلك بمساعدة زوجة "أحدهم" يوم انتقلت من دارها في نقل أمتعتها، وأنه قد حضر عرس"أحدهم"، وأنه يستخدم شركته لتشغيل "المجاهدين" العائدين من أرض المعارك !.
هذا الرجل ..لديه شركة صغيرة متواضعة للنجارة وأعمال صيانة الأبنية، ويمتلك سيارة نقل تجعل أصحابه ومعارفه يطلبون مساعدته في نقل أمتعتهم كلما غيروا منازلهم، ثلاث مرات قام "عبد الرحمن " بمساعدتنا في نقل أمتعتنا من منزل الى منزل، وحضر كل الأفراح والأتراح التي أقيمت في بيتنا، بل قام بها كأنه واحد من أفراد البيت، لم يطلب أحد من "عبد الرحمن " مساعدته إلا وهرول هو وزوجته وأخو زوجته وكل عائلته إلى نجدة الناس، كان الشباب من المهاجرين الجدد الى اسبانيا يأتونه – كما يأتون غيره- طالبين اليه أن يجد لهم عملا في زمن صار الاسبان يرفضون فيه تشغيل كل من يتسمى بأحمد ومحمد وعبد الله وعبد الرحمن، فكان يمنحهم أعمالا تمكنهم من العيش الشريف وعدم التشرد في الشوارع ريثما يجدون فرصا أخرى.عمو "عبد الرحمن" هذا – كما يدعوه أولادنا - والذي لم يبلغ بعد الأربعين من عمره كان صديقا وأخا وابنا ، كنت أراه يوميا ثلاثة مرات على الأقل في طريقي من وإلى مدارس وجامعات أولادي صباحا ومساء يأخذ أولاده من وإلى مدارسهم، يسعى على بيته المفتوح للأصدقاء والأحبة بكرم منقطع المثيل، لم يكن كرماً ماديا فنحن في مدريد جالية متواضعة لاتملك من المتاع الكثير، ولكنه كرم من يفتح صدره لاخوانه ومواطنيه في الغربة ، كان بيته عشا جميلا أنيقا نظيفا يأوي إليه الجميع في السراء والضراء دون أن يشعرأحد فيه بالغربة .
مثل "عبد الرحمن" كان "أبو النور" شريك عبد الرحمن في عمله وفي كل مظاهر سلوك حياته ، ثمانية مرات أراه يوميا كلما أخذنا الأولاد وأتينا بهم من وإلى المدرسة، وبقية اليوم يقضيه في ورشة النجارة أو مساء في المسجد معنا، شابان أقل مايعرفه الناس عنهما أنهما زوجان صالحان ووالدان ممتازان من حيث عنايتهما بأولادهما وأسرتيهما، فمتى تفرغ هذان الشابان للتحضير والتخطيط وتقديم الدعم "اللوجيستي " لأولئك الذين ضربوا أبراج نيويورك؟.
عندما دخلت تلك القاعة رأيت "عبد الرحمن" ثم "أبو النور" سلمت عليهما باشارة من يدي، هذا الجدار العازل أذاب بيننا الحواجز ،لم نكن هناك رجالا ونساء نعرف بعضنا بسبب الغربة وجوار السكن ولايكاد الواحد منا يلقي التحية ولاحتى النظرة على الآخر ، لقد كنا في تلك الصالة غرقى لايدري كل واحد منا بأي قشة يجب عليه أن يتمسك، كنا إخوة غرباء صارت الغربة والظلم لنا نسبا ، لاأدري كيف أصف مشاعري في تلك اللحظات ؟ الشعور بالوجوم ، الشعور بالعجز، الشعور بالظلم، الشعور بالتقصير المريع ، تقصير الجالية مع هؤلاء المتهمين الذين يستحقون أن تُظن بهم البراءة حتى يثبت غير ذلك!!، أنا لاأعرف كل المتهمين ولكنني أعرف حق المعرفة "عبد الرحمن" و"أبو النور" اللذين يطالب المدعي العام بحبس كل واحد منهما تسعة أعوام رفعها الى ثلاثة عشر عاما بعد استجوابهما في المحكمة وبعد أن ثبت أنهما ليسا الرجلين اللذين يظهران في إحدى الصور التي قيل أنها تثبت دعمهما "اللوجستي" لزوجة أحد رجال القاعدة المطلوبين .
لم يكن "ابو النور" و"عبد الرحمن" بالنسبة لأسرتي مجرد جارين يسكنان معنا نفس الحي ، ولكنهما أخوان في الغربة ،وصديقان، تصلي الأسرتان في نفس المسجد ، نأخذ أولادنا إلى نفس المدارس ، نخرج الى نفس المنتزهات ، نشتري من نفس السوق , نختلف ونصطلح يوما إثر يوم كما هي الحال بين جميع الأهل .
أسرة "عبد الرحمن " كانت معنا يوم خرجنا إلى "أتوتشا" محطة قطارات مدريد التي اعتدى عليها "أولئك القوم" بتفجيراتهم الاجرامية فقتلوا مائتي بريء ظلماً وعدواناً وتسببوا في جرح ألفي شخص وتضرر ستين ألف إنسان بصورة مباشرة أو غير مباشرة ودون وجه حق، عدا عن الجريمة النكراء التي ارتكبوها بحق الاسلام والمسلمين في أوربا كلها، زوجة "عبد الرحمن" كانت إلى جانبي في تلك المسيرة التي خرج فيها مجموعة من الشباب المسلم في مدريد يريدون أن يقولوا لمدريد إن الاسلام بريء من هذا الاعتداء الوحشي على الأبرياء، صورة زوجة "عبد الرحمن" وأخاها كانت في أكثر من مائة وسيلة إعلامية وهما يحملان لافتة كتب عليها "لاللارهاب، الاسلام يرفض الاعتداء على الأبرياء "، كيف يمكن لأسرة مثل هذه أن تكون متورطة في هجمات الحادي عشر من سبتمبر ؟!.
من منا لايريد أن يعرف الحقيقة ؟ ومن منا يعترض على مساءلة من لهم ضلع حقيقي في هجمات سبتمبر 2001 ؟ ومن منا لايرغب في معرفة حقيقة ماحدث في نيويورك وواشنطن ؟ وهوية الذين قاموا بتلك الهجمات وطريقة تفكيرهم وإعدادهم وتنظيمهم ؟ كلنا نريد أن نعرف الحقيقة , ولكن شتان شتان مابين معرفة الحقيقة من أهلها الذين يجب عليهم أخلاقيا وسياسيا وقضائيا الاضطلاع بمسؤوليتهم التاريخية فيم حدث , وبين الاعتداء على حرية وكرامة وحقوق الأبرياء لاختراع حقيقة هي ليست من الحقيقة في شيء.
يوم بدأت المخابرات الاسبانية بالتنصت على هاتف عبد الرحمن عام 95 كان عبد الرحمن مجرد فتى حديث السن تبنيناه وتبنانا وكأنه أحد أفراد العائلة ، يوم اعتقل عبد الرحمن أول مرة علمت زوجته باعتقاله وهي في زيارة أهلها في دمشق، وعلمت بذلك وهي ترى صور بيتها تعرض على قناة الجزيرة بعد أن انتهكت حرمة البيت والاسرة بشكل غير قانوني ولاديمقراطي ولاإنساني، كل ذلك من أجل أن ترضى الولايات المتحدة عن حكومة "أثنار" ولتعلم أن إسبانيا ساهرة على مكافحة الارهاب العالمي بكل الوسائل، حتى لو كانت دكّ بيوت الأبرياء. القضاء الاسباني أفرج عن "عبد الرحمن " لاحقا بكفالة مالية متواضعة نوعا ما بسبب سخافة الاتهامات الموجهة إليه، لكن ..أعيد اعتقاله وجميع هؤلاء المتهمين يوم أصبحت الحكومة الاشتراكية الجديدة في حاجة إلى التقرب من جديد إلى الولايات المتحدة بعد الخصام النكد الذي نشأ بين الدولتين بسبب قيام رئيس الحكومة الحالي بسحب القوات الاسبانية بصورة فجّة غير ذكية من العراق دون تشاور ولاتنسيق مع الولايات المتحدة، وأصبحت حكومة "ثاباتيرو" في حاجة إلى أن تقدم بين يدي نجواها مع الادارة الأمريكية قرابين ، كانوا هم هؤلاء الرجال الذين لايوجد دليل واحد يثبت وجود أي علاقة من قريب أو بعيد بينهم وبين ماحدث في نيوورك.
كانت تلك هي المرة الاولى التي استطعت فيها أن أحضر جلسات هذه المحاكمة ، أعاقني عن الحضور أول الأمر مرض أقعدني ،ثم تعطلٌ في السيارة تكرر ، وأخيرا الخوف، الخوف الذي كان ومازال يشل ّ الجالية، لم يبق أحد إلا ونبهني أن لاأرتكب حماقة فأزور المحكمة ، لم يبق أحد إلا وأرسل لي تحذيرات أن لاأذهب إلى مقر المحكمة الدستورية هذه وأن لاأقول شيئا في قناة "الجزيرة" ، حتى أن زوجات بعض المتّهمين غضبن عندما عبّرت لهن عن نيتي في حضور جلسات المحكمة، بل لقد تلقيت نوعا من التهديدات بأن لاأكتب شيئا عن هذه القضية! بعض ذلك كيلا أؤذي الجالية ! آخرون ادّعوا أن كتابتي وخوضي في هذا الموضوع سيؤذي المتهمين أنفسهم، حيث اطمأنت السلطات الاسبانية أنه لايقف إلى جانبهم أحد ولايسأل عنهم أحد، والدليل أنه لم يحضر عربي مسلم واحد غير زوجاتهم أي جلسة من جلسات المحاكمة إلا من قد تمّ استدعاؤهم للشهود في القضية، أو أولئك المراقبين الذين حضروا الايام الاولى استجواب "تيسير علوني" في هذه المحاكمة.
هنيئا للسلطات الاسبانية على هذه الجالية العربية المسلمة المثالية !.
تلك الصالة التي أعدت خصيصا لمحاكمة مايسمى "الخلية الاسبانية الارهابية" ، كانت تعاني صمتا غريبا ، الصمت الصارخ ، عرفت من المتهمين خمسة أو ستة، ممن كنت أراهم في المسجد الذي يعتبر في حياتنا مركزا اجتماعيا يضم الكبار والصغار نجتمع فيه للصلاة والأعراس والمآتم كما لشراء اللحمة والسِمّاء والملوخية ، عرفت أحد هؤلاء المتهمين..كان قد أنقذ قبل عشرين عاما أحد أولادي من موت كان شبه محقق في حادث وقع في مسجدنا مسجد أبي بكر الصديق في مدريد والذي تقول عنه السلطات الاسبانية والاعلام أنه وكر الارهاب وعش الدبابير , أومأت إليه بالسلام ولم يصدق أنني أسلم عليه فهو في السجن منذ أربعة أعوام لم يسأل عنه أحد، حاول التأكد ، فأومأت إليه بالسلام من جديد عبر ذلك الزجاج المانع لاختراق الرصاص، تلك ..كانت اللحظة التي كدت أفقد فيها السيطرة على نفسي وأبكي، لأنني سألت نفسي ماذا أستطيع أن أقدم له ولمن أظن براءتهم يقيناً من رفاق غربتنا وهم في هذه المحنة ؟.
كانت تلك الجلسة الخاصة ببدء مرافعات المحامين، وقد بدأ المرافعة محامي "عماد الدين جركس" المتهم ليس فقط بالتنسيق مع كوماندو الحادي عشر من سبتمبر ولكن كذلك بالتخطيط والاعداد لهجمات الحادي عشر من آذار رغم أنه كان حينها في السجن!! "أبو الدحداح " هذا، فقد أكثر من أربعين كيلوغرام من وزنه أثناء هذه السنوات الأربع التي قضاها في السجن، عرفنا ذلك لأن صورته القديمة لم تختف من وسائل الاعلام الاسبانية يوما واحدا باعتباره أكبر مجرم موجود على وجه الارض! ولكن وبعد أن كادت تتهاوى كل الأدلة ضده وتنهار الصورة الاعلامية التي رسمتها له وسائل الاعلام اعتمادا على المذكرة المقدمة ضده من قاضي التحقيق "غارثون" ظهر في المحكمة رجل غامض يدّعي أنه رأى في برشلونة "أبو الدحداح " هذا مع من؟ لاأقل ولاأكثر ....... مع"محمد عطا" !! هذا الشاهد ظهر بشكل إعجازي في المحكمة وادعى بأنه رآهما مع آخر يدعى "شيبة" وأنه تذكرهم لأنه أستاذ في كلية للفنون حيث قال :إنهم كانوا ثلاثتهم يرتدون سترات جلدية سوداء . وكان ذلك بالطبع في عز الصيف ، لأن "عطا" معروف أنه كان في شهر أغسطس في اسبانيا طريقه نحو نيويورك! انهار أبو الدحداح في زنزانته الزجاجية حتى اضطر قاضي الصالة أن يتدخل ليهدئ من روعه ، وليقول له إن المحكمة لن تأخذ بعين الاعتبار أقوال هذا الشاهد الغريب الذي صمت دهرا ثم نطق بهذه العجيبة على حين غرّة وفقط حينما بدا أن كل الأدلة ضد هذا المتهم تتهاوى ، لكن المدعي العام وعلى الرغم من هذا قرأ على الملأ لائحة الاتهام قائلا إنه تأكد الآن أنه لاأحد فوق أبي الدحداح هذا إلا ابن لادن! وأنه يجب على اسبانيا أن تنزل به حُكماً يكون عبرة لمن اعتبر!.
محامي أبو الدحداح ... بدأ مرافعته بأن وجه للمدعي العام تأنيبا ورداً عنيفاً: "دولة الحق والقانون لاتريد أحكاما "مثالية" تكون عبرة لمن اعتبر .. إنها يجب أن تحكم بعقوبات عادلة مقسطة وتتطابق مع نوع الجرم الحقيقي، وإنه لايوجد دليل واحد لدى المحكمة على هذه الافتراآت، وأن كل الاتهامات الموجهة الى موكلي ساقطة إلا بعض الامور التي تعتبر من فئة الجرائم العادية الصغيرة والتي لاينبغي أن يحكم فيها بأكثر من عامين أو ثلاثة" .
ثم سَخر المحامي من الادعاء الذي طالب اسبانية باتخاذ الاجراآت التي ينتظرها منها العالم بحق هؤلاء الارهابيين , فقال : "لم يولّ أحد إسبانيا مهمة أن تكون شرطي الكرة الأرضية ،أي عالم هذا الذي يهتم لهذه المحاكمة ، لم ترض دولة واحدة بالتعاون مع إسبانيا في التحقيق في هذه المحاكمة ، لاألمانيا ولابريطانيا ولابلجيكا ولاأندونيسيا ولاأفغانستان ولاالبوسنة حتى أن الولايات المتحدة الأمريكية قالت إنه لايهمها أمر هؤلاء المتهمين لأنه لاتوجد ضدهم أدلة واضحة ولم يجد التحقيق في أحداث الحادي عشر من سبتمبر أي علاقة لهم من قريب أو بعيد بما حدث".
وأضاف :" إن المدعي العام تلفظ في مرافعته النهائية بعبارات رنانة محاولة منه لإحالة القضية الى الصحافة التي تعمل قاضياً في هذه القضية منذ اللحظة الأولى" ! , وقال وبالحرف : "بالضبط كما حصل في محاكمة "يسوع" عندما خاف حاكم المدينة الروماني من الحكم عليه بالصلب أحال القضية إلى الغوغاء ليقرروا هم صلبه" .
"لاينبغي أن تكون هذه الصالة في مواجهة العالم ولكن يجب أن تكون في مواجهة التاريخ والعدل والحق والقانون، إننا لسنا هنا كغربيين نحاكم الاسلام والشرق، يجب أن نحاكم التطرف وينبغي أن يعرف هؤلاء القوم أن هناك قانون عادل وقضاء نزيه وأن في العالم شيء آخر يستحق الاحترام غير شريعة الغاب الحاكمة في مناطق كثيرة من العالم ".
"لم يثبت في مئات الآلاف من صفحات التحقيق والاتهامات الموجهة إلى هؤلاء القوم أن واحدا منهم عُرف عنه حادث عنف واحد، هل نحن أمام محاكم تفتيش ؟ بنيت قضية ملفقة على مجموعة من الحيثيات القائمة على تقارير كاذبة وادعاآت مغرضة وترجمات مشوهة وأقوال مجموعة من الجواسيس المندسين بين أفراد هذه الجالية يغتصبون كل قوانين دولة الحق وحقوق الانسان؟!هل هذه هي الصورة التي يجب أن يعرفها العالم عن القضاء في إسبانيا"؟!.
"إن حجم الفساد الذي اكتشفناه في هذه القضية أكثر من مذهل وليس أهم مافيه أن التسمع الذي دام ثمانية اعوام على هواتف هؤلاء الرجال، استخدم لتوريطهم رغم أنوفهم في تفجيرات حدثت بعد عشرة أعوام من بدء التنصت على هواتفهم"!!.
ومضى المحامي في مرافعته السياسية الاعلامية يقول : 500مختطف في غوانتانامو , 30000إسلامي مفقود في أنحاء الارض لايعرف أحد مصيرهم , لاأحد يعرف ماذا يجري في أفغانستان ولافي الشيشان ؟ هناك حيث يحق للجنود البريطانيين والروس تعذيب البشر بأقبح وسائل التعذيب , ماذا يجري في هذا العالم؟ , الضحايا في البوسنة هم المسلمون , في الشيشان هم المسلمون, في العراق كذلك , مسلل فضائحي رنان هذا الذي يجري تحت سمع العالم وبصره .
وعاد المحامي للتساؤل : لقد جعلت وسائل الاعلام من هذا الرجل سفاحا دون أي وجه حق!..اتهموه ورفاقه بالانتماء الى تنظيم مسلح , لايوجد دليل واحد في اسباينا على وجوده اللهم ماذكره الجواسيس عن النهر الذي يلتقون فيه ،وللصدفة فانه أحد أنهار مدريد التي تعاني من جفاف منقطع النظير والذي تجتمع عنده الجالية السورية للتنزه بعيدا عن ضوضاء المدينة ،ولاأعرف أن أحدا وجد لدى ذلك النهر عتادا ولاذخيرة ولاغواصة نووية – كما قال المحامي- .
الأسلحة الوحيدة التي دخلت هذه القضية هي أسلحة "غالان" : وكلها أسلحة رياضة وزينة , لم يثبت أن أحدا قطعت رأسه بواحد من السيوف المعلقة في صالة بيته!!.
ثم أنهى المحامي مرافعته بالقول : لاتدعوا مهمة هذه المحكمة تنحصر في محاكمة الاسلام فالاسلام جزء من تاريخ هذه البلد مهما زعمت وسائل الاعلام غير ذلك , وإن الاسلام موجود بيننا بوجود هؤلاء المواطنيين الذين تريد وسائل الاعلام أن تصورهم سرطانا يفتك بمجتمعاتنا مع أنهم ليسوا إلا مواطنين يعيشون بيننا منذ عقود في حالة طبيعية يبحثون عن عيش شريف بعيدا عن القهر الذي تعانيه بلادهم.
***
عند هذا الحد بدأت همهمات بعض الحضور من الجمهور الذي يعدّ على الأصابع تتعالى من آخر الصالة بكيل السباب والشتائم للمحامي وللمتهمين وللحجابات الموجودة بين الحضور وبأقذع الألفاظ.
على الرغم من هذه الهمهمات لاأظن أن القضاء الاسباني كان في تلك الصالة يحاكم الاسلام , بكل صدق وشرف أقول إن قوى الأمن الاسبانية حاولت أن تكون شديدة الحذر في التعامل مع هذه القضية , لكن التنصت على الهواتف ودسّ الجواسيس في كل مكان ومراقبة الحركات والسكنات والحسابات المصرفية وتوجهات الفكر وحركات الأيدي على من تسلم ومن تحيي وهل ترفع للدعاء أم تحمل مجلة أو كتابا , كل هذا جعل حياة العرب والمسلمين في مدريد تبدو جحيما حمل كل من يستطيع من السوريين بشكل خاص أن يعقد مصالحة مع "الأمن" في بلده ليستطيع العودة إليها .
إننا نشهد محاكمة للفكر الاسلامي المعاصر , لسلوكنا كأمة وحركات إسلامية وأفراد, لطريقة تفكيرنا في معالجة قضايانا المصيرية , محاكمة لمفهومنا عن "الجهاد" و "المحنة" و"العمل الاسلامي " و "الأمة الاسلامية" , وجها من أوجه الواقع الاسلامي المعاصر المرير والذي لانريد أن نعترف فيه أننا نعاني من أزمة فكرية تربوية عميقة ..أزمة تتجلى بأعجب صورها من حيث حيثيات الاعتقالات التي تمت وكيف تمت ولماذا تمت , وتصرفات الجالية تجاه أبنائها , وتخلي الحكومات عن رعاياها .
عندما كنا صغارا جدا شنق حاكم مصر في حينه كاتبا اسلاميا استثنائيا وأديبا عظيما يدعى "سيد قطب" ...رأيت جدي يومها يبكي في حرقة , ويقول : "ياجدو لقد أعدوا الحكم بالإعدام قبل أن تبدأ المحاكمة, قتلوه قتلهم الله".
لاأدري كم من السنوات مضت منذ ذلك اليوم , ولكن كل الذي أدريه أنني ذات يوم خرجت من بلادنا بحثا عن شيء من العدل , وشيء من الحرية , وأمل في العيش في أرض تعامل الانسان إنسانا تضمن حقوقه وكرامته ولايحدث فيها مثل هذا الذي يحدث في مدريد على عتبات القرن الواحد والعشرين.