ليس العجب في واقع الأمر والحال،أن فرنسا مستعمر الأمس،والمتعامل رقم واحد اقتصاديا مع الجزائر ،تبادر إلى إخراج مكنونها السياسي الاستعماري البغيض،وتسفر عن الوجه الحقيقي الذي يعتبر عند العارفين بخبايا الاستعمار التقليدي من الأشياء المنطقية،ما دام أن فرنسا نفسها لم تختر الجلاء عن أرض الجزائر بمحض الإرادة. وإنما كان بإكراه مقيت،وبسلطة الحديد.لكن العجب العاجب في من ينتظر من دولة معروف عنها بالوحشية الاستعمارية،وبالسعي الحثيث لاجتثاث مقومات أي أمة تقع تحت ضرسها الاستعماري الطاحن،أن تسارع إلى ذبح نفسها بسكينها،وتقدم نفسها للعبد القديم على أنها تقبل المحاكمة التاريخية،على جرائمها الكثيرة.
ويخطئ من يعتقد مجرد الاعتقاد أن فرنسا التي عملت المستحيل كي تبقي امتداداتها داخل ما كانت تعتبره محميتها المطلقة،وجنتها الدائمة ،ورسخت اسمها داخل الإطار الجغرافي باستعمال ما هو شرعي وما هو غير شرعي،على أن تبقى الجزائر ضمن ممتلكاتها بأن تسميها الجزائر فرنسية،سوف تفرط وبكل سهولة في هذه الجنة التي كانت حقا جنة على ضفاف البحر الأبيض المتوسط،وليس هذا فحسب وإنما تعلن أمام الملأ بأنها مذنبة في حق الشعب الجزائري،وهي التي كانت تحرقه بالنبالم في القرى والمداشر .
وحتى عندما غادرت أرض الجزائر الطاهرة وهي صاغرة مدحورة،ومهزومة،بعد أن دنستها بوحشيتها،استطاعت أن تكيف خروجها من الجزائر عشية 5 جويلية 1962،بأنه خروج مبني على مصلحة فرنسا أولا واخيرا،والجميع يعلم بالتصريح الذي يحفظه الجزائريون جيلا بعد جيل الذي قاله شارل ديغول"أن الجزائر سوف تأسف على هذا الاستقلال بعد ثلاثين سنة"،وإن كان هذا التصريح لم يلق الشرح اللائق به من قبل جهابذة قراء ما وراء التصريحات الكبيرة ومن الرجالات الكبيرة،بيد أن تفسيره جاء يطابق تسارع الأحداث في الجزائر،وتركيبة النظام الجزائري الذي لم يترك للشعب الجزائري الفرصة السانحة بأن ينعم ولو قليلا بهذا الاستقلال.فكان ذلك التصريح بمثابة إشارة قوية بأن فرنسا لا تأسف أبدا على خروجها من الجزائر،وهذا كان بكل تأكيد موجه للفرنسيين الذين عاتبوا الجنرال ديغول على تفريطه في الجزائر بتلك السهولة،كما أن التصريح في نفس الوقت تطمينا للقيادة الفرنسية على أن الجزائر وفق المعطيات التي يملكها،ووفق المسار العام الذي شاهده عن السياسيين لن تذهب بعيدا،وستعود إلى نفس المحطة التي انطلقت منها بل ستعتذر عما فعلته بنفسها بانها طلبت الاستقلال على عجل.
فرنسا بتمجيدها لجرائمها دونما حياء-لو صح أن نقول ذلك،لأن الحياء لا ينطبق على الدول والعلاقات الدولية- واستمرارها في جرح مشاعر الجزائريين،بإعادة الاعتبار للخونة والحركى الذين تعرف عنهم فرنسا بأنهم مجرد مرتزقة توظفهم فقط وقت الحاجة،وهم مجرد قطعان غنم لهم بطونهم ليأكلوا بها ولهم أعناقهم ليذبحوا عن طريقها بعد انتهاء مدة الخدمة،هي في الحقيقة تريد إيصال رسالة سياسية واضحة المعالم للسلطات الجزائرية بأن فرنسا الأمس هي فرنسا اليوم،وتعلم –أي فرنسا- أن السلطات الجزائرية لا تملك الحول والطول بأن تضغط الضغط الحقيقي لتضع حدا لهذا التحرش المخزي، وإن كان أمرا يخص فرنسا لوحدها دون غيرها لكن مادام الحالة الاستعمارية كحالة لم يتم التطرق إليها من قبل السلطة الجزائرية مع فرنسا على أن الحقبة الاستعمارية يجب الوقوف حيالها بالمحاسبة والتدقيق فيها.فإن فرنسا لن تتوانى في الدوس على مشاعر هذه الأمة إلى يوم الدين،وتظل استفزازاتها تعمل آلتها إلى أن تجد فرنسا من رحم هذا الشعب من يقول لها كفى كلاما وفعلا.
إن السياسة الفرنسية في طبيعتها مقسمة إلى قسمين،قسم هو ما نسميه بالرسمي يندرج ضمن ما يقدم باسم الدولة الفرنسية،وقسم غير رسمي ينوء به غير السياسيين بصفة رسمية لكن المحصلة العامة لا تخلو إطلاقا من أن التوجه العام لا يمكن إلا أن يكون خادما لفرنسا ولهذا نجد أن التصريحات وإن بدت للوهلة الأولى متناقضة،بيد أنها لا تنقص من مفعول التصريح الرسمي الحقيقي المتوخى،ويفهم التلفيق غير الرسمي في شرح ما هو رسمي لغرض واحد هو تفريغ الشحنات النفسية،وتمكين للهدف المرجو أن يجد مكانته في إطاره الحقيقي،وقد لمسنا كيف أن فرنسا الرسمية تطلق ما تريده والحديث دائما عن العلاقة الاستعمارية بين الجزائر وفرنسا،ثم يأتي غير الرسميين ليحاولوا تفريغ الشحنات لينسى الأمر برمته بعد ذلك.
وكم من التصريحات الجارحة التي أطلقتها فرنسا،وسوقها غير الرسميين الفرنسيين لتجد مكانتها،ويتحقق المراد منها،وعندنا الفيلسوف"جورج لا بيكا " الذي أعلن لجريدة يومية عن استيائه الكبير من المنحى العام الذي اتخذه تعامل الطبقة السياسية الفرنسية،مع الكولونيالية الفرنسية،وكان يقصد الجزائر،إذ اعتبر أن ما تقوم به فرنسا هو من صنع اليد اللوبي اليهودي.وهذه صراحة قمة التمييع للحقائق،وعندما نسع مثل هذا الكلام من فيلسوف كـ"لابيكا" فإننا نستشعر بأن فرنسا معذورة فيما تقوم به ولو بأياد يهودية كما يقول.
لكن المسألة لا تتعلق بأعذار فلان وعلان ،وإنما تتعلق في الجزائريين أنفسهم وفي النظام الرسمي الذي لم يوضح بعد المعلم الحقيقي تجاه القضية الاستعمارية مع فرنسا،ليضع الأصبع على الجرح،ويعلن الاستقلال التام غير المنقوص،لأن المعالجة الفرنسية لمسألة الكولونيالية لم تنطلق إلا من مسلمة كون النظام الرسمي عندنا غير معني بما تفعله فرنسا،تاركة المجال للأقاويل والتصريحات المضادة الذي لا تقدم ولا تؤخر،من طرف المثقفين والصحافيين.
ولو كانت السلطة الفعلية عندنا جادة في تعاطيها مع تحرشات النظام الرسمي الفرنسي،لأخذت القضية الكولونيالية منحى آخر،ولاعترفت فرنسا بجرائمها،ولاعتذرت وقدمت الفاتورة الرسمية كما قدمتها سنة 1984 أمام القرية السويسرية،لكن والأمر غير جدي،والسلطة في شغلها هائمة،ومسئولينا وما أكثرهم يتنطعون باللغة الفرنسية،ويسبحون بحمد فرنسا،فإن فرنسا لن تمجد فقط جرائمها،ومن ساعدوها على تلك الجرائم، بل أخشى ما يخشاه كل جزائري مريض بما تقوم به فرنسا هذه الأيام أن تطالب بمستعمرتها القديمة، بما أن فينا من الجزائريين من تجري القابلية للاستعمار في جسده مجرى الدم.