ثمة مئة سبب ودافع لعقد قمة عربية طارئة ، من بينها سبب رئيس ودافع وجيه . السبب هو تردي حال الأمة على نحوٍ غير مسبوق في مختلف الميادين حتى شارفت ، وربما بلغت ، درجة إنعدام الوزن.. الدافع هو ضرورة وقف التردي وتحديد الخسائر بالسرعة الممكنة قبل ان تدخل الأمة، قولا وفعلا، حال التلاشي والإنحلال. من أسف ان يثـور خلاف بين مصر والجزائر حول ملابسات الدعوة للقمة الطارئة . أياً ما كانت الملابسات فإنها تهون قياسا بخطورة التحديات الماثلة التي تواجه العرب جميعا في هذه الآونة وتستوجب النهوض إلى مواجهتها بشجاعة وحكمة.
يحار المرء من أين يبدأ في تحديد الاولويات . فالتحديات التي تواجه الأمة مجتمعة كما تواجه أقطارها فرادى كثيرة وخطيرة لدرجة يجد المرء معها صعوبة في التصنيف والتقويم. ومع ذلك لا بدّ من تقديم الأهم على المهم مهما كانت الفوارق دقيقة ورهيفة اذْ تصعب معالجة كل الازمات والمشكلات ومواجهة التحديات دفعة واحدة وفي الوقت نفسه . فوق ذلك ، ثمة نهج في العمل كفيل بحد ذاته بأن يعوّض على الجميع سيئة الإضطرار إلى حصر التركيز بالقضايا الاكثر خطورة من بين قضايا أخرى لا تقلّ عنها خطورة . إنه نهج الجدية في العمل والتضامن المتين في مواجهة التحديات والإصرار على الإنجاز مهما كانت الصعوبات والتضحيات . صحيح أن لا ضمانة لقيام الملوك والرؤساء بإعتماد هذا النهج القويم في قمتهم القادمة ، لكن هل من سبيل آخر ؟ ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل !
لعل قضايا ثلاثا تفرض نفسها في هذه الآونة على جدول أعمال القمة الطارئة وتستوجب إتخاذ قرارات ومواقف فيها ومنها قابلة للتنفيذ ، بل واجبة التنفيذ ، بلا إبطاء أو مخاتلة. ليس بين هذه القضايا قضية الإرهاب الذي ضرب مصر مؤخراً في شرم الشيخ ضربةً موجعة ربما كانت الدافع الأول لدى الرئيس حسني مبارك إلى إستعجال عقد القمة . فالإرهاب ، في مفهوم العرب والمسلمين ، نتيجة وليس سببا. انه نتيجة المظالم التي ألحقتها دول الغرب ، لا سيما الولايات المتحدة ، بالعرب بلادا وعبادا سحابة قرن كامل وما زالت . فلا فائدة ترتجى من رفض هذا المفهوم ولا مصلحة تتأتى عن مجاراة زعماء أميركا وأوروبا في هذا السبيل . كما لا مكسب إضافياً يمكن الحصول عليه من خلال وهم الإعتقاد بأن تضامنا أقوى وتنسيقا أوسع بين الدول العربية كفيل بوضع نهاية للعمليات الإرهابية . فالعرب كما الغرب إستنفدا أو كادا التدابير الامنية التي يمكن إتخاذها لمواجهة الإرهاب. وأي جهد إضافي لا يتطلب ، على كل حال ، عقد قمة طارئة لدرسه وإقراره .
أولى القضايا الأكثر خطورة إنسحابُ إسرائيل المرتقب من قطاع غزه . ارييل شارون أعلنها صراحةً في صحيفة " هآرتس " للفلسطينيين والعـرب والمسلمين والعالم : " إن المسألة ليست الإنسحاب من غزه بل ضمّ معظم الضفـة الغربية لإسرائيل " . هذا التصريح ليس موجّها للإسرائيليين فقط من اجل الإستهلاك الداخلي كما يظن البعض أو كما حرص الأميركيون على ان يلقوا في روع البعض الآخر. انه كلام واضح من رئيس حكومة مسؤول عن كلامه ومسؤول أمام شعبه . الإنسحاب من غزه ، اذاً ، هو حلقة من خطة أوسع ترمي إلى إبتلاع معظم الضفة علــى نحوٍ يلغــي عمليا " خريطة الطريق " ولا يترك شيئاً قابلا للبحث في مفاوضات " الوضع النهائي " . من هنا تنبع أهمية أن يدرك القادة العرب غرض شارون الحقيقي ، فلا ينشغلون عنه بمسألة مساعدته على تأمين متطلبات الإنسحاب وكأن الإنسحاب هو الجائزة الكبرى ونهاية المطاف .
نعم ، الإنسحاب من غزه ليس نهاية المطاف. لذا يقتضي ان يصدر عن القمة الطارئة موقف يؤكد على ان الإنسحاب هو مجرد خطوة في إطار " خريطة الطريق" التي تعهدت إسرائيل لأعضاء اللجنة الرباعية ، وفي مقدمهم الولايات المتحدة، بتنفيذ بنودها. كما يقتضي ان تؤكد القمة على ان الدول العربيــة ما زالت متمسكــة بـ " مبادرة السلام العربية " ( الأفضل في مبادئها وبنودها من " خريطة الطريق ") وانها تلتزم تاليا دعم الفلسطينيين لإسترداد حقوقهم غير القابلة للتصرف ، وان هذا الدعم مستمر ايا كانت طبيعة النهج الكفاحي الذي يعتمدونه لتحقيق اهدافهم المشروعة.
أكثر من ذلك : يجب ان يتدارس القادة العرب والفلسطينيون مسألة تعديل مشروع " خريطة الطريق" بإتجاه الدعوة لمباشرةِ مفاوضات " الوضع النهائي" عقب إنجاز الإنسحاب من غزه ، وذلك تفاديا لمزيد من المماطلة والمخاتلة والمنافقة الإسرائيلية من جهة وقبل إبتلاع ما تبقى من الضفة الغربية من جهة أخرى.
ثانية القضايا الأكثر خطورة إنسحابُ أميركا المرتقب من العراق ربيع العام المقيل . ذلك ان الوضع الأمني والسياسي والاقتصادي في بلاد الرافدين يتردى بسرعة وعلى نحوٍ ينذر بإنهيار السلطة التي نصبتها قوات الإحتلال ، ما يؤدي تاليا إلى تفكيك العراق إلى دويلات ثلاث أو أكثر. من هنا تنبع أهمية المطالبة بلا إبطاء بإخـراج العراق من قبضة أميركا وحليفاتها ووضعه في عهدة الأمم المتحدة . ذلك يتطلب إتخاذ قرار في مجلس الأمن بهذا الموضوع ، وتكوين قوة دولية من الدول الإسلامية ودول عدم الانحياز تكون في أمرة الأمين العام للأمم المتحدة ، مهمتها الحلول محل القوات الاميركية وقوات حلفائها .. كما يقتضي ان يتضمن قرار مجلس الأمن الجديد تفويضا للامين العام بإجراء إنتخابات حرة ونزيهة في العراق من اجل تمكين ممثلي الشعب العراقي من إقامة حكومة وطنية انتقالية وكتابة دستور جديد يحفظ وحدة البلاد ويؤمن إقامة الديمقراطية في ربوعها ويكفل حقوق مكوّنات الشعب العراقي ويصون حقوق الإنسان والحريات العامة ، على ان يقرّ في استفتاء عام.
من الطبيعي ان تعارض حكومة العراق توجّه قادة القمة الطارئة إلى إخراجه بالسرعة الممكنة من قبضة اميركا ووضعه في عهدة الأمم المتحدة ، ذلك انها نتاج الإحتلال الأميركي ولها مصلحة في إطالة بقائها في السلطة . لكن ألا يدرك القادة العرب جسامة الأخطار الناجمة عن ذلك وانعكاسها على حاضر العراق ومستقبله ، بل على مصائر الدول المجاورة أيضا ؟ غني عن البيان ان ترك العراق لمصيره بين براثن الأميركيين سيؤدي إلى تفكيكه والى انتقال العدوى إلى جيرانه ، فهل يتحمّل القادة العرب مسؤولية النتائج الكارثية الناجمة عن ذلك ؟
ثالثة القضايا الأكثر خطورة إحتمالُ نقل الملف النووي الإيراني إلى مجلس الأمن الدولي . هذا سيؤدي إلى حدوث مجابهة بين دول الغرب وإيران قد تتطور إلى فرض حصار على الجمهورية الإسلامية وتوقيع عقوبات اقتصادية بحقها. وقد تستبق أميركا الحصار والعقوبات أو تستتبعها بضربة عسكرية لإيران بقصد تدمير منشآتها النووية ، أو ربما تكلف إسرائيل بتنفيذها ، وهو الإحتمال الراجح.
إن أية مجابهة أو صدام عسكري بين أميركا وإيران او بين إسرائيل – بتفويض من أميركا – وإيران ينعكسان سلبا على دول المنطقة ويهددان مصالحها ، خصوصا إذا ما استغلت إسرائيل التفويض الأميركي لمحاولة ضرب المقاومة الإسلامية ( حزب الله اللبناني) بدعوى تحالفها مع إيران . من هنا تنبع أهمية إستباق الدول العربية التحركات الأميركية المعادية لإيران بإعلان موقف صارم بنقاط ثلاث:
• معارضة أية عقوبات أميركية ضد إيران كونها مجافية لميثاق الأمم المتحدة ولأحكام القانون الدولي، والاعلان مسبقا عن عدم الإلتزام بتطبيقها ..
• إدانة أية حرب تشنها أميركا على إيران بقصد حرمانها حق امتلاك قدرات نووية ، ورفض المشاركة فيها أو إعطاء تسهيلات من أي نوع في سياقها، والتضامن مع الشعب الإيراني في مقاومة العدوان على أرضه وحقوقه .
• تحذير الولايات المتحدة من تفويض إسرائيل ضرب المنشآت النووية الإيرانية أو التغاضي عنها وعمّا يمكن ان تقوم به في هذا السياق من اعتداءات على لبنان أو سوريا بدعوى وجود تعاون بين إيران ومنظمات سياسية أو كفاحية مقيمة على أراضيهما ، والتضامن مع كل من لبنان وسوريا ، شعبا وحكومة ، في مواجهة العدوان بجميع الوسائل المشروعة.
لا معنى لقمة عربية طارئة إذا كانت ستتعاطى مع الولايات المتحدة وحليفاتها وفق النهج التقليدي السائد . ان الدفاع عن المصالح الوطنية هو أول واجبات الدولة السيّدة. ولا شك في ان السياسات التي تعتمدها الولايات المتحدة تنتهك سيادة الدول العربية وغيرها وتسيء إلى مصالحها الوطنية العليا، فهل يجوز ان يصبح إتبّاع المزيد من الشيء نفسه ، أي مراعاتها بدعوى إتقاء شرها ، قاعدةً وقانونا في التعاطي معها ؟
لا يخفى على احد ان سياسة أميركا متعثرة في العراق وفلسطين وسوريا وحتى في لبنان ( رغم انسحاب القوات السورية منه ) فلا خوف والحالة هذه من ان ترتد أميركا على الدول العربية انتقاماً إذا ما وقفت مواقف رصينة وجادة في إلتزام مصالحها الوطنية والدفاع عنها.
بعض الشجاعة يا قوم !