عَقِب إغتيال المغفور له الرئيس رفيق الحريري، طالب كثير من اللبنانيين ، مسؤولين ومواطنين ، بتكليف هيئة دولية التحقيق في الجريمة النكراء. إستجاب مجلس الأمن الدولي طلب اللبنانيين فعيّن لهذا الغرض لجنة تحقيق دولية برئاسة قاضي تحقيق ألماني الجنسية ، متمرس ومقتدر هو ديتليف ميليس. ما كان اللبنانيون ومجلس الأمن ، ومن ورائه الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا، ليحرصوا على تحقيق دولي في الجريمة النكراء لو كانت الثقة متوفرة بالقضاء اللبناني . فالمسؤولون اللبنانيون يعرفون قبل غيرهم واقع القضاء في البلاد. كيف لهم ان يجهلوا أو يتجاهلوا وضعه المحزن وهم الذين حرصوا منذ الإستقلال على التدخل في شؤونه وتسخير بعض أعضائه وهيئاته لمآربهم ومصالحهم الخاصة ؟
أما المتقاضون فهم أدرى الناس بواقع القضاء لأنهم ضحايا تدخل السياسة والسياسيين في شؤونه على مرّ العهود.
لعل مسارعة أميركا وفرنسا وبريطانيا إلى تبنّي تكليف هيئة دولية مسؤولية التحقيق في الجريمة النكراء تجد تفسيرها في معرفة مسؤولي هذه الدول أيضاً مدى تردي وضع القضاء اللبناني وخضوع بعض أعضائه وهيئاته لسيطرة أهل السلطة.
لكن الأمر يتعدى هذه الحقيقة الساطعة إلى حقيقة أخرى لا تقل سطوعا هي رغبة الدول الكبرى ، لا سيما أميركا، في تسييس القضية. ذلك يتحقق بالتأثير على لجنة التحقيق الدولية ، رئيسا وأعضاء، من خلال حجب بعض المعلومات والأدلة أو إبرازها ، أو من خلال الضغط المباشر أو غير المباشر على أعضائها وخبرائها ومساعديهم. كما لا يخفى على احد أن مسوؤلين ومراجع محليين يرغبون أيضاً في تسييس التحقيق ، وهم يستخدمون أساليب مشابهة لما تقوم به الدول الكبرى وإن كانوا أقصر باعا منها في هذا المجال.
ليس أدل على تسييس القضية من هذه الوقائع والشواهد المتواترة:
• القاضي ميليس قام بخطوتين لافتتين لهما معنى سياسي محسوس. ذلك انـه أقدم ، عشية إنتخابات الشمال ، على كشف جانب من تحقيقات لجنته يشير إلى واقعتين : الأولى ، ثبوت حصول التفجير فوق الأرض وليس تحتها. الثانية ، ان شاحنة من طراز ميتسوبيتشي ذات مقود إلى يمينها شاركت في عملية الإغتيال ، موحياً بدورٍ لعنصر إنتحاري فيها. ذلك أوحى بدوره بأن الاغتيال من تدبير جهة أصولية. أما الخطوة الثانية فكانت إجراء ميليس مقابلة صحافية مع جريدة " له فيغارو" الفرنسية كشف فيها النقاب عن وجود مشتبه بهم عبثوا بمسرح الجريمة ، وان من بين هؤلاء العميد مصطفى حمدان ، قائد لواء الحرس الجمهوري.
• تسريب معلومات من قبل ميليس أو مساعديه حول أنشطة معينة قامت بها لجنة التحقيق من بينها إجراء إستجواب خطي بالمراسلة مع كبار ضباط جهاز الأمن والاستطلاع السوري الذي كان عاملا في لبنان ، وفي مقدمهم رئيسه العميد رستم غزاله. ثم ، وبإزاء ردة الفعل التي قوبل بها هذا الخبر، مبادرة نجيب فريجي ، المسؤول الإعلامي للأمم المتحدة في بيروت ، إلى نفيه. ذلك أوحى بان دمشق غير متعاونة مع ميليس أو ان هذا الأخير يراعي حساسيتها على نحوٍ يسيء إلى التحقيق.
• تسريب أخبار ، وأحيانا تأكيدات ، بأن ميليس سوف يطلب من أمين عام الأمم المتحدة تمديد أجل مهمته من 6 إلى 8 أسابيع ، الأمر الذي أفسح في المجال أمام مسؤولين سياسيين ودينيين وإعلاميين إلى الحديث عن صفقة سياسية متعددة الغرض بين أميركا وسوريا يجري طبخها على نار خفيفة ، وأن ذلك استوجب تمديد أجل مهمة ميليس.
من مجمل هذه الوقائع والشواهد ، يتضح ان الجانب القضائي الدولي مسؤول أكثر من غيره عن تسييس القضية. ذلك انه من المسلّم به لبنانيا ودوليا ان التحقيق في القضايا الجنائية سري ولا يجوز كشف مضمونه قبل صدور قرار قاضي التحقيق، أو تقرير رئيس لجنة التحقيق الدولية في قضيتنا الراهنة .
والحال ان ميليس كشف بعض الوقائع وأعلن الإشتباه ببعض الأشخاص، وأثار الشكوك ببعض الجهات ، وأوحى بإتجاه التحقيق وجهةً معينة حينا، كما أوحت تسريبات مدروسة من طرفه بإتجاه التحقيق وجهةً مغايرة حينا آخر.
مهما يكن من أمر، فإن المفارقة الكبرى في كل هذه الممارسات المنافية للقانون والعدالة أن بعض التسريبات يشير إلى ان المحققين الدوليين سلّموا، أو كادوا ، بأن التحقيقات التي أجراها المحققون اللبنانيون والإستنتاجات التي توصلوا إليها سليمة وصحيحة، وان لجنة التحقيق الدولية في صدد تبنّيها والأخذ بها ! هذه النتيجة المباغتة لا تـردّ الإعتبار للقضاء اللبناني أو لبعض أعضائه المثيرين للجدل بقدر ما تعزز الشكوك في قضاء ميليس الدولي ، أي بجدوى تكليف لجنة دولية مهمة التحقيق ، كما تعزز الظنون بإمكانية وجود طبخة سياسية لمصلحة هذه الجهة أو تلك.
اذْ يزداد الإرتياب بقضاء ميليس، تثور أسئلة جدّية حول " القَدَر" الذي تعدّه أميركا للبنان وسوريا في قابل الأيام. هل تراها خططت لإغتيال الحريري واخترقت إحدى الشبكات الأصولية لتنفيذ عملية الإغتيال بواسطتها ، أم انها استغلت العملية الأصولية على نحوٍ أنتج موجة سخط تسونامية أدت إلى جرف الوجود السوري إلى خارج لبنان ؟
هل وعدت أميركا سوريا بتبرئة ساحتها في قضية اغتيال الحريري إذا ما تخلت دمشق عن دعم المنظمات الفلسطينية المقاومة من جهة وبادرت من جهة أخرى إلى القيام بدور مهدّيء وموحِّد في العراق علـى حساب نفوذ إيران المتزايد ؟
هل تعيد واشنطن القوات السورية إلى لبنان ، أو إلى مواقع فيه ، على سبيل التسوية مقابل تعطيل سلاح حزب الله وتفادي هجمة إسرائيلية لإحتلال الجنوب من اجل " تنظيفه" من صواريخ المقاومة الإسلامية بعيدة المدى ؟
هل تخطط أميركا – عبر تقرير لجنة التحقيق الدولية – لتحميل سوريا مسؤولية اغتيال الحريري وذلك كمقدمة لحملة ضغوط عليها مقرونة بإضطرابات يثيرها أكراد شمال سوريا الشرقي وغيرهم بغية زعزعة النظام وتقويضه؟
هل تردّ سوريا على مخططات أميركا العدائية بتفاهم استراتيجي مع إيران لدعم حزب الله والمقاومة الإسلامية في جنوب لبنان ، والمقاومة العراقية على امتداد بلاد الرافدين، والمقاومة الفلسطينية سياسيا ولوجستيا بعد اندلاع الإنتفاضة الثالثة المرتقبة في الضفة الغربية... كل ذلك لمواجهة أميركا بالتعاون مع إيران علناً ومع الإسلام الراديكالي ومنظماته المقاتلة ضمنا على جبهة عريضة تمتد من شواطىء الساحل الشرقي للبحر المتوسط وصولاً إلى الطرف الجنوبي للخليج على شواطىء المحيط الهندي ؟
أسئلة طريفة وجدّية في آن تمور في عقول أهل القرار وأهل الجوار وأهل المقاومة وأهل المهادنة ، وفي أوساط أصدقاء أميركا وحلفاء سوريا ، وبين اللاعبين اللبنانيين كبارا وصغارا من أهل الوطنية والممانعة والمقاومة أو من أهل المناكفة والمخاتلة والمساومة.
أسئلة تبحث عن أجوبة ، يقال للبنانيين انها لن تكون حاهزة الاّ بعد ان يضع ميليس تقريره ، فيبدأ عندئذٍ قَدَر أميركا بالنفاذ .
لبنان ما زال معلّقاً بين قضاء ميليس وقَدَر أميركا.