لقد كُتب الكثير على صفحات الجرائد والمجلات وقيل الكثير على شاشات التلفزة والفضائيات في شأن اندحار قوات الاحتلال الصهيوني من قطاع غزة. لقد كان القاسم المشترك الأعظم بين كل تلك التحليلات والكتابات وباعتراف الصحافة الصهيونية هو أن انسحاب قوات الاحتلال وإخلاء قطعان المستعمرين وتفكيك المستعمرات من غزه، بلا أدنى شك، كان انتصارا للمقاومة العنيدة والصمود الأسطوري الذي تجلى في نضال الشعب الفلسطيني على الأراضي الفلسطينية وفي الشتات وما قدّمه هذا الشعب من استعداد للتضحية بكل شي ورفض التنازل. إن ذلك شكّل سابقة في الفكر الصهيوني في انحسار المشروع الاستعماري الصهيوني ليس في غزة والضفة فقط وإنما في الكيان الصهيوني ذاته لأنه هو نفسه عبارة عن مشروع استعماري كبير.
لقد رافق هذا الاندحار مسرحية هزلية سمجة أطلق عليها "الإخلاء". إنها مسرحية هزلية أخذت مكانها على أراضي فلسطينية مغتصبة تحت سمع وأبصار العالم بتغطية إعلامية غير مسبوقة، اذ تقاطر الصحفيون والاعلاميون الى المنطقة من كل أنحاء العالم. لقد استقدم الكيان الصهيوني أكثر من 900 صحافي من مختلف أنحاء العالم لتغطية هذه "المأساة"، كما يرونها، والتي حاقت بلصوص التاريخ وقراصنة العصر. والهدف من ذلك واضح جدا هو الحصول على التعاطف الدولي مع المغتصبين "للتضحية والتنازل" التي قدموها من أجل السلام والأخطر من ذلك كأن شارون يريد أن يقول للعالم: أنظروا كيف حصل عندما فعلنا ما فعلناه في غزة فكيف يكون الأمر عليه في الضفة الغربية؟
من يشاهد شبكات التلفزة او يقرأ المجلات في الغرب يعتقد ان غزة ارض "إسرائيلية" وهم يتبرعون بها للشعب الفلسطيني مع البكاء والعويل. في حين أننا لم نشهد مثل هذه التغطية الإعلامية التي حظي بها المُحتَل في قطاع غزة عندما أقدمت قوات الاحتلال على تدمير بيوت اللاجئين الفلسطينيين وطردهم من بيوتهم في أنصاف الليالي في الأشهر الأخيرة من هذا العام. كما وصف ذلك (جوناثان ستيل) في صحيفة الغارديان في 1982005 أنه لم يكن هناك "تدريب حساسية" لجهة التعامل مع المستعمرين، ولم يكن هناك حافلات تقل المطرودين، ولم يكن هناك إنذارات طويلة المدى ليتسنى للمُعْتدَى عليهم الخروج من بيوتهم قبل التدمير، ولم يكن هناك تعويضات كبيرة عن بيوتهم المدمرة كالتعويضات التي حصل عليها المستعمرون. لقد حصل كل مستعمر على مبلغ يترواح ما بين 140000 و 400000 دولار أمريكي. ولم يكن هناك وعودا بالمساعدات بمساكن بديلة عندما دخلت الجرافات رفح كما وعد هؤلاء المغتصبون.
بالمقارنة مع ما شاهدناه في (غوش قطيف) الذي كان إخلاء "خمس نجوم" بالقفازات الحريرية، لقد أعطيت العائلات في رفح خمس دقائق للخروج من مساكنها قبل تدميرها وفي حالات كثيرة دمرت البيوت على رؤوس أصحابها في ساعات الفجر الأولى.
في مقابلة مع امرأة من مستعمرة (نيفي ديكاليم) في برنامج نايت لاين Night Line في شبكة التلفزيون الأمريكية ABC يوم الإثنين 1582005 قالت: إنها ستغادر برغم الألم الشديد (والدموع في عينيها) الذي تحسه لمغادرتها المكان. تحدثت عن الشجرة التي زرعتها أمام البيت عندما كان عمرها ثلاث سنوات وراقبت نمو هذه الشجرة سنة وراء سنة وهي تكبر معها. تحدثت عن ذكرياتها. ثم تحولت الكاميرا إلى والديها العجوزين لتظهر البؤس والحزن في عيونهم. السؤال هو أين كانت هذه الكاميرا ووسائل الإعلام الأخرى إبان الخمس سنوات الماضية عندما كانت ولا تزال قوات الاحتلال تنكل وتدمر وتقتل وتغتال وتقتلع الأشجار التي زرعها الأطفال الفلسطينيون في بيوتهم أيضا؟ لم نر على مدار سنوات التنكيل والإجرام هذه مقابلة واحدة مع طفل أو شاب أو امرأة فلسطينية بهذا الطول ليتاح لها أن تبث مشاعر الأسى والحزن والدمار الذي لحق بها أو بأسرتها أو ببيتها. ولم يحدث أن سمح صحفي أو أحد مراسلي شبكات التلفزة الأمريكية أو الغربية لأمرأة فلسطينية، تم تدمير بيتها على يد الآلة الصهيونية الحاقدة وفقدت كل ما تملك في ذلك البيت، لتعبر عن آلامها وحزنها وذكرياتها كما فعلت المستوطنة الصهيونية.
علما أن في غزة وحدها 23 ألف عائلة فقدت مساكنها منذ عام 2000 على يد آلة الحرب الصهيونية.
أين كانت وسائل الإعلام والتلفزة العالمية في مايو 2004 عندما فقد سكان مخيم رفح بيوتهم للمرة الثانية بفعل غارة ليلية ولم يعطوا المهلة لإخراج ما يمكن إخراجه من بيوتهم؟ أين كانت وسائل الإعلام أيضا عندما قامت قوات الاحتلال بحرث شوارع نفس المخيم وتدمير المجاري وبقايا البنية التحتية من كهرباء وماء وحتى الحيوانات لم تسلم من تدميرهم؟ وأين كانت نفس وسائل الإعلام عندما أطلقت قوات الاحتلال النار على متظاهرين مسالمين في نفس المخيم وقتلوا 14 شخصا بما فيهم الأطفال؟ أين كانت وسائل الإعلام عندما دمرت قوات الاحتلال السادية والوحشية مخيم جنين في نيسان 2002؟ وأين كانت وسائل الإعلام في الصيف الماضي عندما حاصرت قوات الاحتلال واقتحمت مخيم جباليا وقتلت أكثر من 100 شخص؟ أين هي وسائل الإعلام من الاحتجاجات والمظاهرات السلمية للفلسطينيين والإسرائيليين والأجانب المتعاطفين معهم ضد بناء جدار الفصل العنصري؟ لقد نكلت قوات الاحتلال الصهيوني الغاشم ولا تزال تنكل بالمتظاهرين والمحتجين أشد تنكيل. أين وسائل الإعلام من الإذلال اليومي على مئات الحواجز في الضفة الغربية؟
وفقط الآن نسمع ونشاهد ونقرأ في وسائل الإعلام أنها "نهاية احتلال دام 38 سنة" لقطاع غزة و"نقطة تحول" و"فرصة للسلام" و "عدم شرعية الاستعمار" ... إلخ. إنها نكتة سمجة حقا؟ لماذا كانت هذه الحقائق غائبة لمدة 38 عاما؟ فمتى كان الاستعمار شرعيا وقانونيا؟
إن انسحاب قوات الاحتلال كما قلنا خطوة على طريق التحرير وإنها اندحار للمشروع الصهيوني ولكنها تظل ناقصة إذا ما قرر الكيان الصهيوني الاستمرار في محاصرة القطاع برا وجوا وبحرا. يعني ذلك أن 1,4 مليون نسمة بمثابة سجناء في قطاع غزة. وبهذا تكون قوات الاحتلال تعيد انتشارها خارج القطاع فقط الذي سيصبح محاطا بالأسلاك الشائكة والسياج المكهرب والجدران الإسمنتية وأبراج المراقبة المجهزة بأحدث أنواع التكنولوجيا. إن التصريحات التي صدرت عن وزير الحرب الصهيوني "شاؤول موفاز" واضحة لا لبس فيها بأن قواته سوف تبقي على سيطرتها الجوية وعلى مراقبتها للحدود البرية والبحرية للقطاع وكذلك الأمر مع ممر صلاح الدين الذي يطلق عليه ممر "فيلاديلفي" رغم الاتفاق الذي تم التوصل إليه مع الحكومة المصرية بشأن نشر 750 جندياً مصرياً على الحدود مع فلسطين.
وهذا يعني - في النهاية - تحويل القطاع لسجن كبير يعبث به الصهاينة عن بعد كلما شاءوا دون أن يتكبدوا خسائر تذكر . وتصبح الحركة من داخل القطاع إلى الخارج عبر معبر رفح الحدودي مع مصر ، والمعابر التي تحكم الحركة بين الضفة الغربية والقطاع ، خاضعة لإشراف الكيان الصهيوني المباشر ، الأمر الذي لا يستطيع الفلسطينيون معه التحرك بحرية . وسيحرم العمال من عملهم خارج القطاع ويتم فصل القطاع بالكامل عن الضفة. ففي تقرير للبنك الدولي صدر في كانون الأول عام 2004 يتوقع أن البطالة والفقر سيزدادان بعد تنفيذ خطة فك الارتباط لأن الكيان الصهيوني سيبقي السيطرة الكاملة على حركة البضائع الواردة والصادرة إلى القطاع وسيكون هناك فصل إجباري بين الضفة والقطاع مما يمنع تواصل المواطنين في كلتا المنطقتين. وكذلك سيفرض هذا الواقع إبرام اتفاقيات جمركية مختلفة للقطاع والضفة للإمعان في فصلهما.
إن أخطر ما في الموضوع هو استثمار الكيان الصهيوني لهذا الانسحاب لتحقيق أهدافه المعلنة وغير المعلنة. وفي غمرة هذا الحدث يجب ألا ننسى أن الكيان الصهيوني له أيضا أهدافه عندما يقدم على مثل هذه الخطوة رغم أنفه. فهو يريد استثمار خطوته هذه إلى أقصى الحدود. واسثمارات العدو لمثل هذا الاندحار تشكل حقل ألغام في مسيرة نضال الشعب الفلسطيني المستمر. ولهذا يجب التفتيش عن هذه الألغام وتفكيكها كي لا تنفجر في وجوهنا وينجح شارون في تصوراته وأحلامه وأهدافه. لقد حصل الكيان الصهيوني نتيجة استثماره للحدث على ما يلي:
• التغطية الإعلامية التي شهدها العالم إبان إخلاء المستعمرات كي يرى العالم مدى فظاعة "المأساة" التي وقعت على هؤلاء "المساكين" الذين يجردون من منازلهم ومدى شجاعة شارون وتضحيته من أجل "السلام".
• إشادة البيت الابيض بالانسحاب الاسرائيلي من قطاع غزة ووصفه بأنه خطوة شجاعة ستعزز العلاقات بين الولايات المتحدة واسرائيل. وقالت دانا بيرينو المتحدثة باسم البيت الابيض ان ارييل شارون رئيس الوزراء الاسرائيلي كان شجاعا للغاية في تنفيذ الانسحاب. وابلغت بيرينو الصحافيين ندرك ان فك الارتباط سيجعل اسرائيل أقوي ... نتفق مع رئيس الوزراء شارون علي ذلك كما ان الرئيس قال ان هذا الامر سيقرب بين بلدينا أكثر.
• إشادة رئيس أكبر دولة عربية بشجاعة شارون "رجل السلام" متمنيا لقاءه في أقرب فرصة. وهذا ما يسمح لشارون أن يدخل إلى العالم العربي من أوسع الأبواب بعد تعميده من قبل أكبر دولة عربية "مصر".
وعلى المدى المتوسط والطويل يتوقع الكيان الصهيوني أن يحقق بعض أهدافه التالية:
• تطبيع العلاقات مع المحيط العربي. فمن جهته أكد وزير الخارجية الإسرائيلي في مقابلة مع صحيفة كويتية أن بلاده قريبة جدا من تطبيع العلاقات مع عدة دول عربية وقال في مقابلة مع صحيفة الرأي العام الكويتية امس الخميس ان زيارات رجال أعمال كويتيين لبلاده لم تنقطع .
وقال شالوم بأنه مقتنع بان جهود السلام بدأت تثمر خاصة بعد الانسحاب من غزة داعيا لاستثمار فرصة الانسحاب من غزة واستغلالها لإقناع الرأي العام الاسرائيلي باننا بحاجة الي السلام مع العالم العربي أكثر من اي وقت مضي، واننا مستعدون لتقديم خبراتنا لدول العربية. وأضاف قائلا إننا جاهزون لأن نقيم علاقات طبيعية مع عشر دول عربية واسلامية ، لدينا الان مع ثلاث منها، هي مصر والاردن وموريتانيا ونحن قريبون جدا من تطبيع العلاقات مع دول اخري، ولدينا اتصالات جيدة مع اقطار اسلامية . واضاف سنواصل عملية التطبيع والامر مجرد وقت، وستساعدنا خطة الانفصال في انجاز المزيد من عمليات التطبيع مستغربا إصرار بعض الدول العربية وحتي الفلسطينيون على الالتقاء بنا بصورة سرية. ومن ناحية أخرى أكد شالوم ان العديد من رجال الأعمال العرب وبخاصة من الخليج والكويت يحضرون على مدار السنة لأسباب متعددة إما للعلاج أو للتجارة والاستثمار.
• إعطاء الانطباع للعالم بأنه حسن النية تجاه الفلسطينيين ويريد التوصل معهم إلى حل للصراع "الإسرائيلي"- الفلسطيني ، والذي يتمثل - في نظره- في فض الاشتباك بين الطرفين من ناحية ، وإتاحة الفرصة لعودة الأطراف لمائدة المفاوضات وتطبيق خريطة الطريق من ناحية أخرى وإدخال الفلسطينيين في دوامة المفاوضات مرة أخرى على أن يتم نزع سلاح المقاومة. وفي حال لم يستطع شارون تجيير انسحابه من القطاع لصالح اقتطاع 58% من أراضي الضفة ، وفي حال فشله في تنفيذ مخططه الذي يقضي بحل المشكلات العالقة بين الطرفين على مراحل قد تمتد لعشرين عاماً قادمة وفي حال حافظ الفلسطينيون على وحدتهم الوطينة سيجد المبرر لأي عمليات عسكرية يقوم بها الجيش الإسرائيلي ضد الفلسطينيين وبإعادة احتلال القطاع بحجة القضاء على الإرهاب الفلسطيني.
• عزم شارون والكيان الصهيوني على المضي في المخطط الاستعماري الإحلالي القاضي بتوسيع الاستيطان في الضفة الغربية وتهويد القدس ورفضه لعودة اللاجئين. ومن هنا ستكون في نظره غزة أولا وأخيرا. فلن تكون هناك مفاوضات أو تنفيذ أي خطط أو انسحابات في المستقبل.
وتلخص وثيقة قام بإصدارها في 2 تشرين الثاني 2004 معهد رويت – معهد الرؤية والسياسة الإسرائيلية –الاحتمالات أمام الكيان الصهيوني بعد تنفيذ خطة الإنسحاب أحادي الجانب كما يلي:
1. المحافظة على الوضع الناجم عن خطة الانسحاب دون تقدم إلى أي خطوة تالية والتخلي عن خارطة الطريق.
2. قد تقرر "إسرائيل" تجنب المفاوضات مع الطرف الفلسطيني وتبنّي خطة انسحاب محدودة أخرى.
3. قد تعمد "إسرائيل" بعد الانسحاب إلى التوصل إلى اتفاقية حل دائم من خلال "إبرام صفقة الحُزمة" على غرار أوسلو (كاتفاقيات جنيف وغيرها من المحاولات) أو التفاوض على إقامة دولة فلسطينية بحدود مؤقتة كما تنص المرحلة الثانية من خارطة الطريق أو السعي إلى التوصل لإقامة دولة فلسطينية بحدود مؤقتة عبر استراتيجية "الاعتراف الأحادي".
4. إتاحة نشوء دولة فلسطينية بحدود مؤقتة لدولة "إسرائيل" الخيار بين إستراتيجيتين للمضيّ نحو الحل الدائم. إمّا بإبرام اتفاقية حل دائم بناءً على صفقة الحُزمة كما في المرحلة الثالثة من خارطة الطريق أو تجزئة اتفاقية الحل الدائم أو التخفيف من وقعها من خلال إبرام عدة إتفاقات ثنائية بين إسرائيل والدولة المؤقتة.
ومن هنا يجب أن يضع الفلسطينيون في حسابهم كل الاحتمالات والحقائق التي يجب أن يدركها الجميع- فصائل وسلطة- بأننا لا نزال في مرحلة التحرر الوطني وألا تأخذنا العزة بالأثم ونتصور أننا حققنا أهداف النصر والتحرير وأن البقية الباقية ستتكفل بها سلطة واهية عبر المفاوضات حيث نعود بالقضية إلى المربع الأول ونكون "كالمُنْبَت الذي لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى". يجب التمسك بالثوابت الفلسطينية عبر الوحدة الوطنية واحتضان المقاومة بكل عناصر قوتها وعدم محاولة النيل منها تنفيذا لرغبات أمريكية صهيونية. فالمقاومة حق شرعي تكفله القوانين الوضعية والسماوية لكل الشعوب التي ترزح تحت الاحتلال.