يقول مثل لبناني قديم: " عند اختلاف الدول، احفظ رأسك "!
الدول اختلفت في لبنان وعليه. وبعد أن اختلفت، اتفقت على إخراج دولة سوريا منه وإدخال دولتي الولايات المتحدة وفرنسا إليه. اتفاق الدول تمّ في إطار قرار مجلس الأمن 1559 الذي يتضمن، إضافة إلى بند إخراج سوريا، بنوداً أخرى تتعلق بحلّ "الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية"، بمعنى تجريدها من السلاح. حزب الله يعتبر نفسه، بحق، مقاومة وليس ميليشيا. لذلك رفض تنفيذ قرار مجلس الأمن. مثله رفضت المنظمات الفلسطينية تسليم سلاحها إلى أن تتفق حكومة لبنان والسلطة الوطنية الفلسطينية على تسوية لقضية اللاجئين تعالج شروط العودة والإقامة وممارسة الحقوق المدنية والإنسانية.
لم يتأخر اللبنانيون، لاسيّما الزعماء ورجال الصف الأول بينهم، عن إدراك أبعاد اختلاف الدول في لبنان، فقرروا – بحق - حفظ رؤوسهم. بعضهم تحصّن في بيته لا يبارحه إلاّ قليلاً ووسط حراسة مكثّفة. بعضهم الآخر غادر البلاد إلى عواصم دول القرار، متخوفاً من مخاطر "قائمة اغتيالات" قيل أن لجنة التحقيق الدولية حذّرت هي الأخرى من مخاطرها. أما سائر اللبنانيين فقد تُركوا لمصيرهم. ترى، من سيحفظ رؤوسهم ؟!
لعل السؤال الأهم بعد توقيف مجموعة من كبار القادة الأمنيين السابقين والحاليين أمام لجنة التحقيق الدولية لإستجوابهم: كيف سيكون مشهد اليوم التالي في لبنان بعد أن يُصدر رئيس لجنة التحقيق الدولية ديتليف ميليس تقريره النهائي؟
ليس صعبا، في ضوء المعلومات المتوافرة، والإجراءات المتخذة، والتطورات المتوقعة، أن يتصور المراقب المتتبع السيناريو المرجح للخطوات والتدابير المراد اتخاذها من طرف ميليس والحكومة اللبنانية، بدعم واضح من حكومتي واشنطن وباريس.
في هذا الإطار تُمكن الإشارة إلى واقعات بارزة واحتمالات راجحة على النحو الآتي:
أولى الواقعـات أن لبنان أصبح عمليا بعد صدور قرارات مجلس الأمن 1559 ، 1595 و 1614 تحت رقابة دولية معقودة اللواء للولايات المتحدة وفرنسا. هذه الرقابة هي أقل من وصاية وأكثر من رعاية. ومن المرجح أن يطول أجل هذه الرقابة كونها متصلة بقضايا إقليمية أخرى، شائكة وساخنة ، كقضية فلسطين وقضية العراق، وربما أيضاً " قضية " سوريا إذا ما صعّدت واشنطن (وباريس) ضغوطها على دمشق في سياق مطالبتها بفك ارتباطها بالمقاومة الإسلامية (حزب الله) في لبنان، ومنظمات المقاومـة (حماس والجهاد الإسلامي وشهداء الأقصى) في فلسطين ، وحركة المقاومة القومية والإسلامية للاحتلال في العراق.
ثانية الواقعات أن دول الرقابة الدولية المشرفة على لبنان لا تحول دون استمرار الصراع داخله بين قوى سياسية مشاركة في الحكومة، بعضها مؤيد للقرارات الدولية آنفة الذكر وبعضها الآخر معارض لها. كذلك الصراع بين قوى معارضة يؤيد بعضها القرارات الدولية لكنه لا يؤيد الحكومة، بينما بعضها الآخر يعارض القرارات الدولية والحكومة معا. هذه الحال تضع لبنان في مهب تناقضات ونزاعات حادة قد لا تتمكن أطراف الرقابة الدولية من تسويتها في المستقبل المنظو.
ثالثة الواقعات أن سوريا تعهدت بشخص رئيسها بشار الأسد بالتعاون مع لجنة التحقيق الدولية بما في ذلك السماح لها بالتحقيق مع " أي سوري". هذا الموقف يدل، ظاهرَا، إما على وجود ثقة راسخة لدى دمشق ببراءتها مما نُسب إليها، أو ان ما يمكن أن يتهم به بعض مسؤوليها الأمنيين السابقين في لبنان لن يشكل إدانة شديدة لها، لا من الناحية الجنائية ولا من الناحية السياسية .
ماذا لو صدر قرار لجنة التحقيق متضمنا تحديد الجهة المخططة للجريمة والجهة الآمرة بارتكابها، أو تعذر عليها تحديد هوية المخطط والفاعل واكتفت بتحديد بعض المشتبه فيهم من العابثين بمسرح الجريمة ؟ ماذا لو تعثرت سياسة جورج بوش ( ومواقف جاك شيراك) ومخطط ارييل شارون في ما يخص قضايا فلسطين والعراق وسوريا وإيران ؟ ماذا لو اندلعت الانتفاضة الثالثة في الضفة الغربية نتيجة متابعة شارون سياسة الاستيطان ؟ ماذا لو تعاظمت المقاومة العراقية للاحتلال، وجرى رفض مسودة الدستور في الاستفتاء المرتقب في تشرين الأول المقبل ، بل تعذّر إجراء الاستفتاء بسبب التقاء المعارضة السنّية مع المعارضة الشيعية على رفضه؟ ماذا لو اغتنمت دمشق تعثّر سياسة بوش في المنطقة فعادت إلى دعم حلفائها الفلسطينيين واللبنانيين والعراقيين ؟ ماذا لو اغتنمت طهران هي الأخرى تعثّر سياسة بوش واضطراره إلى تليين حملته عليها مع اقتراب موعد الانتخابات النصفية في مطلع تشرين الثاني المقبل؟
في الإجابة عن هذه الأسئلة ، ثمة ثلاثة احتمالات راجحة على النحو الآتي:
أول الاحتمالات أن يسارع مجلس الأمن ، بطلب من لبنان أو من دونه ، إلى اتخاذ قرار اجتهادي باعتبار اغتيال الرئيس رفيق الحريري جريمةً ضد الإنسانية وإحالة القضية تاليا على المحكمة الجنائية الدولية لتقرير صلاحيتها واختصاصها والسير بها.
ثاني الاحتمالات أن تتصاعد ضغوط الخصوم السياسيين لرئيس الجمهورية إميل لحود ، بدعم من واشنطن وباريس ، لحمله على الاستقالة بغية انتخاب رئيس موالٍ للأكثرية النيابة التي أفرزتها الانتخابات الأخيرة. إذا ما نجحت هذه الحملة في تحقيق أغراضها فإن الخطوة التالية التي ستحظى بدعم دول الرقابة الدولية هي قيام الحكومة اللبنانية بنشر وحدات من الجيش اللبناني على طول " الخط الأزرق" الذي يفصل بين أراضي لبنان وأراضي فلسطين المحتلة ، وان ترفدها وحدات أخرى تنتشر بين شبعا والمصنع على الحدود بين لبنان وسوريا. ذلك كله بقصد إقامة جدار عسكري فاصل للحؤول بين المقاومة الإسلامية والوصول إلى المناطق المحتلة تحت طائلة الاصطدام بالجيش اللبناني . هذا بالإضافة إلى سدّ منافذ الإمداد اللوجستي للمقاومة على طول الحدود بين لبنان وسوريا. ولن تتأخر دول الرقابة الدولية بتوفير وحدات عسكرية إضافية تحت راية الأمم المتحدة لمساندة الجيش اللبناني في تنفيذ المهام آنفة الذكر.
ثالث الاحتمالات أن يرفض حزب الله وحلفاؤه السياسيون هذه الترتيبات باعتبارها مقدمة لتجريده من السلاح فيقوم ، مغتنما تعثّر سياسة بوش في المنطقة ، لاسيما في العراق وفلسطين ، ومدعوما ً بسوريا وإيران ، بإطلاق معارضة شعبية لمخطط نشر الجيش اللبناني على طول " الخط الأزرق " ما يؤدي إلى خلخلة النظام السياسي اللبناني وانقسام الطبقة السياسية على نفسها وبالتالي تعطيل تنفيذ المخطط الدولي المرسوم للبنان وسوريا معا.
في كلٍ من الاحتمالات الثلاثة ستكون الإرادة الدولية – وهي اميركية في الدرجة الأولى – فاعلة لا لشيء إلاّ لأن الإرادة اللبنانية غائبة أو سائبة . غير أن تعثّر سياسة بوش في المنطقة قد يؤدي إلى تعثـر الإرادة الدولية في لبنان . من هنا تنبع أهمية استعادة اللبنانيين وحدتهم الوطنية وتحصينها من أجل تكوين إرادة سياسية لمواجهة النتائج المترتبة على إخفاق بوش في إعادة تشكيل المنطقة سياسيا وثقافيا.
يقف اللبنانيون اليوم أمام تحدٍ كبير: إما أن ينجحوا في استعادة وحدتهم وتوليد إرادة وطنية لمواجهة التدخلات الأجنبية أو ينزلق لبنان – شأن فلسطين والعراق – إلى " الفوضى البناءة" التي نشرها بوش في المنطقة كوصفة فاعلة من اجل الانحدار بها من حال التجزئة إلى حال التفتت.