لست عربياً منغلقاً على بني قومي وتراثهم ورغائبهم ومصالحهم. بالعكس، أؤمن بأن الناس سواء أمام القانون، فلا تمييز بينهم بسبب الجنس ، أو الأصل، أو اللون، أو اللغة، أو الدين، أو المذهب، أو الانتماء القومي، أو الرأي السياسي، أو الظروف الشخصية أو الاجتماعية. مع ذلك لا أكتم عجبي وألمي للدور الواسـع المتشعّب، المؤثر، والمزمن الذي لعبه ويلعبه الأجانب في ماضينا وحاضرنا، ويبدو أنهم سيلعبونه في مستقبلنا. صحيح أن للأجنبي، فردا وجماعة، دورًا كبيرُا أو صغيرًا في تاريخ كل امة من أمم الأرض. فالحياة بطبيعتها ومتطلباتها وتعقيداتها تفرض على مختلف الأقوام والجماعات والفئات المتجاورة وحتى المتباعدة أشكالا متعددة من التواصل والتفاعل والتقارب والتعاون والتشارك والتزاوج. غير أن نظرةً متأنية إلى تاريخ العرب بعد الإسلام تشي بحقيقة لافتة هي اتساع دور الأجنبي وامتداده الزمني الطويل على نحوٍ قلّما نقع على مثيل له في أمم أخرى. هل أبالغ إذا قلت إن الأجانب من المسلمين وغير المسلمين حكموا وسيطروا على بلاد العرب مدة تزيد عن نصف تاريخهم بعد ظهور الإسلام ؟
يردّ بعض المؤرخين والكتّاب هذه الظاهرة إلى كون الإسلام في جوهره وسلوك أتباعه تعددي، يتقبل كل الناس من دون تمييز الأمر الذي مكّن أفراد وجماعات من شتى الأقوام والألوان والثقافات من دخول الإسلام في أثناء عهد الخلافة العباسية والانخراط في نسيج مجتمعاتها، وولوج أبواب السلطة والارتقاء في مراتبها، لا سيما في صفوف الجند والحرس والعسس. ألم يتغلغل المماليك، وهم في الأصل تُرك وكُرد وكُرج، في مراتب الجندية أواخر عهد الخلافة العباسية ومطالع عهود الدول التي أعقبت انهيارها حتى استولوا بالدهاء والسلاح على مقاليد السلطة في بلاد الرافدين وبلاد الشام وارض الكنانة ؟ ألــم يحدث ذلك منذ 750 عاما؟ ألم يستمروا في حكم تلك الأقطار والأمصار أكثر من 350 عاما؟
صحيح أن المماليك استعربوا إلى حدٍ ما، وكانوا مسلمين، وتحملوا مسؤولياتهم في رد غزوات المغول والفرنجة عن المنطقة ، ومع ذلك يبقى أنهم حافظوا على عصبياتهم المختلفة فكانت أساس حكمهم الذي تغطّى بالإسلام. غير أن ما يبعث على العجب ، وليس الإعجاب ، رضوخ العرب كليا لسلطة المماليك وولاؤهم لدولتهم عقودا وأجيالاً.
قد يقول قائل: " العرب انتصروا " في النهاية على المماليك بأن استوعبوهم وهضموا وجودهم في مجتمعاتهم وثقافتهم، وفرضوا عليهم لغتهم، فكان أن أنجب هذا التفاعل أمة عربية مركّبة ومبّرأة من العنصرية والانغلاق.
أقرّ بلا تردد بصحة هذه المقولة، لكني لا أكف عن التساؤل عن سبب هذا الركون المفرط للأجنبي، والسكون المزمن إزاءه، والتقبّل التلقائي لحضوره ، والولاء المكين لحكمه وسلطانه؟ هل ثمة نقص بنيوي في الشخصية العربية حال دون تبلورها على نحو يؤدي إلى تظهير استقلاليتها وخصوصيتها وفرادتها؟
ظاهرة الرضوخ للأجنبي وقبول سيطرته امتدت من عهد المماليك إلى عهد الأتراك العثمانيين الذين حكموا العرب على امتداد مساحة وطنهم الكبير أو معظمها أكثر من 400 عام.
وإذا كان العرب تقبّلوا حكم المماليك لقاء تقبّل هؤلاء لغة العرب ودينهم ، فإن سجل بني عثمان مع اللغة العربية والإسلام لا يدعو أبدا إلى الفخر .. فقد جافوا العربية واعرضوا عن تعلمها أو التحدث بها، بل حاولوا تتريك العرب ثقافيا وسياسيا. أما صلتهم بالإسلام فكانت سطحية ونفعية إذ لم يؤثر عن أيٍ من ســــلاطين ( خلفاء !) بني عثمان أن حجّ إلى بيت الله الحرام !
في أواخر عهد " الخلافة" العثمانية، بدأت دول أوروبية غزوَ بلاد العرب. ففي النصف الثاني من القرن التاسع عش، تجذّر الفرنسيون في الجزائر وتونس، والبريطانيون في مصر والسودان وعدن. وفي النصف الأول من القرن العشرين، رسا الفرنسيون في المغرب الأقصى ولبنان وسوريا، والبريطانيون في فلسطين والأردن والعراق وعلى امتداد ساحل الخليج وأنحاء أخرى من جزيرة العرب، والإيطاليون في ليبيا.
قاوم العرب، بدرجات متفاوتة من العنف والثبات ، الدول الأوروبية الغازية، لكنهم لم يوفقوا في تحرير أنفسهم منها إلا بعد انهيار بعضها أو تردّي أوضاع بعضها الآخر نتيجة الحرب العالمية الثانية وحلول الولايات المتحدة محلها في ميادين القوة والثروة والنفوذ. وإنه لأمر جدير بالتسجيل هنا أن جمال عبد الناصر الذي تولى السلطة العام 1952 كان ربما أول حاكم لمصر من أصل عربي مذّ استولى المماليك على السلطة في أرض الكنانه قبل 750 عاماً !
ظاهرتان لافتتان في حقبة الاستعمار الأوروبي ومن ثم في حقبة النفوذ والهيمنة الأمريكيين. الأولى، تعاون الكثير من " أهل الحل والعقد " في البلدان العربية المحتلة أو المستعمَرَة مع سلطات الاحتلال الأمر الذي أعاق نضال حركات التحرير وأطال حكم الأجانب. أكثر من ذلك : تعاونت شرائح كثيرة من أهل السلطة ، قبل نيل بلدانها الاستقلال وبعده مع الأجانب، دولا وشركات وأفراداً، على نحو بالغ السعة والحميمية لدرجة اضطر معها بعض المؤرخين إلى نعت هؤلاء بأنهم وكلاء للأجانب وليس شركاء لهم، عملاء وليس أصدقاء. الثانية، إحجام العرب بصورة عامة عن اقتباس الحداثة لمجرد أنها متلازمة مع الوجود الأجنبي أو هي من نتاجه. نجم عن ذلك أمر غريب: تقبّل العرب حكم الأجانب ، وهو الجانب الشرير فيهم، واعرضوا عن تقبل حداثتهم ، وهي الجانب الجيد فيهم!
هذه حصيلة تجاربنا مع الأجانب سحابة القرون الثمانية الماضية. اليوم يدعونا جورج دبليو بوش ، في معرض تبرير احتلال العراق، إلى الإفادة من تجربة اليابان مع الأمريكان. فقد دمر الأمريكيون اليابان في الحرب العالمية الثانية واحتلوها ثم رعوا عملية إعادة بنائها، وحاولوا أمركتها ثقافيا وسياسيا.
واللافت أنهم يدّعون اليوم لأنفسهم فضل نهوضها وتفوقها ويدعوننا إلى أن نقتفي أثرها في العراق وغير العراق .. لكن الأمريكيين ينسون أو يتناسون أن اليابان كانت قد أضحت قبل الحرب دولة قوية، متطورة، مقتدرة، ومزدهرة تحاكي فرنسا وايطاليا، وان نهوضها بعد الحرب كان في معظمه نتيجة قدراتها الذاتية. مع العلم أن نهوض اليابان في عهد الميكادو منتصف القرن التاسع عشر قد تزامن مع نهوض مصر في عهد محمد علي باشا. غير أن مشروع النهضة في اليابان نجح وتطور في حين اخفق في مصر. السب ؟ اليابان بقيت بمنأى عن أي تسلط أو استعمار أجنبي، في حين أن مصر ابتليت باحتلال بريطانيا لها العام 1882.
إنها لسخافة ما بعدها سخافة أن يدعو بوش العراق إلى الإقتداء باليابان في موقفها من الأمريكان. صحيح أن أمريكا دمرت اليابان في الحرب، إلا أنها لم تخطط لتدويم احتلالها لها، ولم يكن في اليابان من موارد الثروة المعدنية، كالنفط مثلا، ما يغريها بالبقاء فيها. هذا فضلاً عن أنها لم تحاول سرقة مفردات تراثها وآثارها وموروثاتها الفنية. ولا قامت بتدمير اقتصادها ومرافقها العامة وحلّ جيشها والتنكيل بأفراد شعبها وقتلهم وحبسهم وممارسة أبشع ألوان التعذيب الجنسي برجالهم ونسائهم داخل السجون وخارجها. هل تكون الولايات المتحدة، بعد هذا كله، قدوة يُقتدى بها ونموذجا حضاريا يغري بالتقليد والتجريب؟
يتحصل من مجمل ما تقدّم بيانه أن للعرب مشكلة علاقة مع الأجانب في السلم كما في الحرب. فهم تقبّلوا الأجنبي المسلم وارتضوه حاكما لهم وسيدا عليهم سحابة قرون. وهم رضخوا أيضا للأجنبي غير المسلم وارتضوه حاكماً لهم أحيانًا، لكنهم رفضوا اكتساب حداثته دائما. وجدوا في الإسلام مسوّغا لتقبل الحاكم الأجنبي المسلم حتى عندما كان سطحيا ونفعيا في إسلامه. لكنهم تقاعسوا عن محاربة الحاكم الأجنبي غير المسلم ورفضوا اكتساب حداثته وإن لم يرفضوا سلطته وحكمه.
متى يفهم العرب إسلامهم بمنطق الحرية والكرامة ، ويختارون حكامهم بمنطق الشورى والديمقراطية، ويكتسبون الحداثة بمنطق العلم واستجلاب المنفعة، ويؤمنون بالله بغير نفاق ، ويعملون لمصلحة الأمة بغير منّة ؟