سألني الزملاء في التحرير السياسي ماذا نضع عنواناً لملف الخروج الشاروني من غزة وهم يتحضرون لمونتاج هذا الملف، أجبت: ربما تضعون عنواناً يقول (شمس المقاومة تشرق في غزة)، قالوا: العنوان جميل ولكنه طويل وأضف إلى هذا أن بعض المنابر الإعلامية للمقاومة قد استخدمت عنوان( الاندحار)، تأملت في الكلمة وقلت هو حقاً (إندي) بما تتيحه المقابلة الإنجليزية في الترجمة، وهو حقاً(حارَ) بما تتيحه الحيرة دون ترجمة! ولكن على أيِّ حال هو النهار الأول يا صديقي الباش مهندس أسامة عليان وغداً يكون النهار الثاني.
نعم فالنهار الأول قد تحقَّق فعلاً بانسحاب الظلام عن هذا الجزء من الوطن السليب وإن كان النهار قد سطع على المعصم من داخله وربما بقي القيد في خارجه، فعلى الأقل ها هو يولد ولادة حقيقية يمكن أن نراها أملاً وحافزاً، بقي أن نؤكّد أن هذا النهار لا تكون قابلته ليلية قطعاً ولا هي ظلامية بتاتاً، بل قابلته نورانية من الدرجة الأولى ولا أجلّ من قابلة قوافل الشهداء التي قدمها شعب فلسطين العظيم، هذا الشعب الذي يباع ويشترى باسمه منذ قرن ويزيد ولا زال قادراً على أن يحتفظ بكيمياء البوصلة وجاميتات الرواية.
عدت متذكّراً ما أرسله لي الصديق رشاد أبو شاور معقِّباً على قصيدة (الدوحة الغزية) حيث أجال بصره وبصُره حديد مع أنه يعاني من صعوبات في إقامة ظهره حيث ازداد الحملُ على فقراته التي ما فتأت تئنُّ تحت وطأة ما ترى وتسمع، قال صديقي: من حقِّ الفلسطيني أن يفرح بوزن وقافية، ولعله أصاب فغاية الفرح أن يكون على أقصاهُ ولكن لا ينسى أقصاه، وهو إنما يكتسبُ إنسانيته من عفويته ومباشرته مثلما يكتسب معناه من حقيقة مبناه، على كلٍ وجدتني أيضاً أشارك الأصدقاء والأعزاء مما وصلني فرحهم على أقصاه البعيد وعلى أدناه الحذر ولكننا معاً نأملُ ويأملون.
بيدَ أن في واقع الحال أخاديدُ وشقوق، ودرج بعض المتحذلقين على طلب النظر إلى نصف الكأس الملآن وعدم النظر إلى النصف الآخر الفارغ، وإنما هم لو قالوا ننظر هنا أولاً وننظر هناك تالياً لأنصفوا واستبرأوا، ولكنهم أصرّوا فأصبحوا أحد اثنين لا ثالثَ لهما: فإما هم في أصحاب الغرض لهذا النظر وهم هنا قد اندرجوا تحت صفة التحذلق حكماً بيِّناً مقطوعاً عن أي إضافة وغير مستغلٍ بحركةِ الآخر فيه، وإما أنهم شديدو البراءة والعفوية والحماس، فينفعونَ تفاؤلاً ويعنّون واقعاً، ولكني أرى في حالهم الأخيرة هذه شهادة تخرجُ هؤلاءِ عن التحذلقِ على أي حال إلى الفطرة أولى حيث جبل الإنسانُ على حبِّ الخير وقال فيه محكم النصِّ إنّه(لشديد) في ذلك بينما لم يغفل صفته الأخرى بأنه كنود.
دعوني أنظر إلى الكأسِ تاماً حيثُ الفائدةُ وحيثُ الأملُ أيضاً فقد خرج هذا العدو المستحكمُ فعلاً بعدته وعتاده، بقضه وقضيضه، ومده ومديده نعم، ولكنه أبقى بين ظهرانينا كما أبقى خارج حصوننا، وأما ما هو خارج الحصون فحكمه معلوم وإن جلس في حصان طروادة ردحاً واستطالَ عليه الزمنُ دهراً، وأما من هو بين الظهرانيِّ وخارج من الفقر والصلب والترائب فهذا هو العدو الأخطر وهذا هو الجهاد الأكبر، فإن كنا على الجهادِ الأصغر قد ذهبنا جموعاً وشتاتاً مذاهبَ وعقائدَ وسلاسلَ ومراتب، فلعمري في هذا غير مكروه ولا مندوب بل هو من السبع الموبقات ومن حلائق الأعمال ومن جرائم الأولى والآخرة التي لا يقبل ُ فيها شرح ولا فصل.
كانت لنا ثورتان في هذا القرن، واحدة تزعَّم أمرها مفتي فلسطين العام الشهيد سيف الدين الحاج أمين الحسني ووصفها الواصفون بأنها كانت ثورة- وعي ، ولكنها أدت دورها ونهضت على أيِّ حال شهادة في شرف المحاولة وقدّمت خيرة أبناء فلسطين من شهيدها الكبير في معركة القسطل الشهيد عبد القادر الحسيني قائداً مقداماً ،إلى شهيدها الأصيل في معركة الشجرة الشاعر الشهيد عبد الرحيم محمود، وجاءت ثورتنا الثانية على منقطع من السنين العجاف فقادها القائد الوطني العام الشهيد محمد عبد الرؤوف عرفات (أبو عمار) فقالوا فيها هي ثورة+ وعي، وكان يعوَّل على هذا الوعي أن يستنقذ ما عجزت عنه التجربة الأولى ففعل إلى حد ما ولم ينجح تماماً وأمدت جذوة الحرية بخيرة الدماء وخيرة الرجال فقدمت ما يضيق عن تعداده المجال في القادة والمناضلين وكذلك في الشعراء والأدباء والمثقفين .
قيل في الثورة الأولى كثير وأعيدت إلى الأذهان هذه الأيام جولات الشهيد الحاج أمين في محاولاته الدؤوب لنيل النصرة لشعب فلسطين وقضيته مثلما لكل بلاد العرب والمسلمين، قادته قدماه ويأسه من الباقين إلى النازي والفاشيِّ طالباً ما أمكن لنصرة بلاد العرب أجمع ولعلَّه من المفيد أن يلقى الضوء هنا كثيفاً حتى يعلم القاصي والداني ما هي طبيعة القومية والدين في هذا الفلسطيني الذي يطلب عزَّ الأهل والدار ولا ينظر إلى شباك فيها أو جدار، وقيل في الثورة الثانية الأكثر وما زال القيل والقال قائماً على ساقيِّ البصيرة طوراً وساقيِّ الكبيرة أطواراً، بيدَ أن المنصف أن يقال أنه إذا أنتجت الثورة الأولى إنجازاً فقد سجلت موقف شعب فلسطين بأحرف من نور في العزة والقومية والصمود والإباء بما لا يتيح ذرة شكٍّ أو تشكيك، وأما الثورة الثانية فقد أنجزت عنواناً وطنياً لا يمكن أن ينكر بحال.
أما أهم ما عجزت عن تحقيقه الثورتان معاً فهو صناعة وحدة حقيقية شعبية وقيادة تنظيم واحد قائد يأخذ بيد هذه إلى مبتغاها من الحرية والتحرير، نعم نفهم كلَّ المعوِّقات من كل التصنيفات وندرك حجم العوائق والحواجز من كلِّ التشكيلات، ولكنَّ ذلكَ لا ينهضُ مبرراً ولا يستقيمُ محلِّلاً، كيفَ وقد كانت منظمة التحرير الفلسطينية في نهاية الأمر مشروع هذا التنظيم القائد وما آلت إليه تجربتها وأحوالها؟ خطر ذلك في البال ونحن نشاهد ملاحظة ذكية أوردها الأمير طلال بن عبد العزيز في معرض جوابه على الزميل داود الشريان في آخر لقاءاته وهو يقارن بين حال فيتنام وحال فلسطين، صحيح أن لكل خصوصياته وما سوف يخرج علينا به ذات المتحذلقين في وصف معسكر تحالف الفيتنام الصيني والسوفيتي آنذاك، بيد أن أساس الفكرة هو الرغبة والحرص على هذه الرغبة وهو ما قدمه الفيتناميون وحرسوه بدمهم ونارهم وطريفهم وتالدهم وما قمنا نحن نعرض بضاعته على كلِّ باب حينما نريد ونشهرهُ سيفاً في وجه حلفائنا وبعض أشقائنا تحت شعار (استقلالية القرار الوطني) حينما نريد!
أذكر ما روي لي عن القائد الشهيد ياسر عرفات يوم حضر إليه قادة تنظيم لبنانيِّ يطلبون منه النصرة حيث أخبروه بانشقاق البعض على القيادة الشرعية المنتخبة وهي الحاضرة عنده للشكوى ويومها قيلَ أن أبا عمار سأل: أين المال؟ قيل هو معهم فقد استولوا عليه، ثم سأل: أين المليشيات والسلاح ؟ قيل: هو أيضا معهم فقد استولوا عليه، أبو عمار أجاب عندها: اذهبوا فانشقوا معهم...!! هذه الحكاية هي ملخص ما قاله كثيرون عن إيمان الشهيد أبو عمار بما سمعه من حكمة أبلغه إياها والده الروحي الحاج أمين أو نقلت إليه على لسانه، ولكن الواقع يقول أن في فلسفة هذه الرواية التي تقول إن الثورة : مال وسلاح مكمن العلة وموضع مقتل حكايتنا الفلسطينية هذه ، يا سادة الثورة التي تشترى تباع أيضاً وهذا هو الفرق الجوهري بين ثورة الفيتنام وثورة فلسطين كما تشير مؤشرات النهاية حتى الساعة.
المال والسلاح هما وسيلة الرجال في أي ثورة ولكن حينما تتحولان إلى غاية وهدف فهذه ليست ثورة وهذه الممارسات هي ممارسات قطاع الطرق الذين يمكنهم ببساطة أن يصدروا كلَّ يوم بيان، طبعا هم سيقتلون من عندهم مرة ولكنهم سيقتلون من عندنا مرات، لعل الصديق عبد الرحيم جاموس في مقالته الأخيرة التي حاول فيها أن يلقي ضوءا على أسباب ما نشهده من فلتان أمني قد وفِّق في منهج القراءة حينما رآها على أساس الخلخلة في البنية الوظيفية والسياسية ولكنها في المسكوت عنه، هي في واقع الأمر في الخلخلة الفلسفية التي ظهرت آثارها جلية واضحة دون لبس ودون غطاء، نحن يا سادة وخلال تجربة هذا العقد الأخير كاملاً كان عندنا ثوار( البزنس) وليس ثوار القضية.
اللقاءات والحوارات التي نقلها ووضع القاريء في صورتها الزميل شاكر الجوهري والتي جرت حتى الساعة في دمشق بين وفد حركة فتح والذي يرأسه القائد الأمين فاروق القدومي كما يحب لناصروه أن يدعوه وبين مختلف الفصائل الفلسطينية تظهر حجم بعض الانتهازية الموجودة في هذه التجربة الفلسطينية، القدومي الذي يضطر للذهاب إلى سلطان بروناي وغيره للحصول على المال لكي يدفع مثل القدومي الذي ذهبَ إلى النازي والفاشي ليطلب نصرة قضية العرب وقضية فلسطين مع بعض التعديلات التي اقتضتها ضرورات المشهد، والقدومي الذي ينتظر موافقة حماس من أجل تحديد انفراط العقد الذي تشكله منظمة التحرير الفلسطينية والمحاولة في إنتاج وحدة الشعب ووحدة حالة التنظيم القائد، هو ذات القدومي الذي شجع وحمى ولادة حماس ومثل حماس في العمل الوطني والذي طالما تمنّعت خلفيات حماس عقوداً طويلةً عن المشاركة الوطنية لأنه لم (يحن الأوانُ بعد) أو لأن منظمة التحرير الفلسطينية (لا تمثّلنا) مع فروق المشهد مرة أخرى!
القدومي الذي اختار محمود عباس لرئاسة منظمة التحرير اختاره مجبرا لظروف ما قدمه من شروحات تتعلق بتقليدية قيادة منظمة التحرير لهذا الفصيل ممن هم أعضاء عن هذا الفصيل في هذه اللجنة التنفيذية، هذا إن أردنا إنصاف الرجل لأمانة ما يقول ويفعل ولكنه إن وجد ما يبرِّر له خياره هذا على أساس حرصه الشديد والدقيق على التلاؤم مع الأسس والأنظمة والقوانين التي لم يرد أن يخرقها ويقفز من فوقها، فإن قضية ترشيح السيد محمود عباس لرئاسة السلطة الوطنية كانت ليست فقط قضية يمكن أن تصنّف على أنها خطأ القدومي وخطيئته وحده، فهي كانت مجال شبه إجماع من مجمل التنظيم ذاته لو وقف في وجهها القدومي نفسه لكان اليوم وكل يوم موضع اتهام بدلاً من التردِّد والضعف كما يقول البعض كتاباً وفصائل، لكان موضع اتهام بالمركزية والتعنُّت والتجبّر واللاديموقراطية واللامؤسساتية ! ومع ذلك يلام القدومي ويلام غيره في هيئة القيادة التاريخية وصفها الأول تحديداً في عدم الأخذ بمبدأ التفكيك الذي كنا نتمنى لو وقفت عنده برهة واحدة حينما بحّض صوتنا وصوت غيرنا في المناداة به والذي كان سيجنبنا بعض هذه المقزّزات اليوم.
الفئات في التنظيم الواحد وقادة الفصائل في المشهد الواحد التي تستمريء لنفسها أن تدخل في لعبة الضعف والقوة على هذا النحو الذي جرى تحليله في مقال الزميل العزيز شاكر الجوهري هي موصّفة دون حاجة لمزيد من التعب في الاصطلاح، فمن يشترى ويرغب في الشراء الذي على القدومي أن يذهب لهذا وهذا من أجله هو من فئة ثوار (البزنس) وليس ثوار القضية، والفصائل التي ترغب في الاصطفاف مع جوهر ما ينادي به القدومي من عملة وطنية خالصة كانت حتى الساعة الأخيرة (الشماعة التي طالما علِّق عليها في ذات الوقت الذي تكونه الكعكة التي طالما رُغبَ بها) هي فصائل تمارس الانتهازية في أبشع صورها مهما كان اسمها ورسمها ورصيدها ويتحمل من يبلِّغ هذا الموقف عنها ويريها على هذا النحو وزر ذلك دون غيره بما يسيء به إلى قيادة أمينة ونقية اختارها الله بين شهداء هذا الشعب من حمامة فلسطين الطاهرة الوضّاء الشيخ أحمد ياسين المؤسس إلى الشهيد الطبيب الرنتيسي إلى الشهيد الصادق أبو شنب ، والأسوأ من الاثنين معاً هم قطّاع الطرق ممن في السلطة الوطنية بتسمية وزراء فما دون إلى من بالشارع بتسمية كتائب ومفارز إلى ما دون.
د.جورج حبش هذا المناضل العملاق كان كما وصفه الشهيد أبو عمار بأنه ضمير الثورة الفلسطينية وهو كان ولا زال ضمير الثورة الفلسطينية فعلاً نفتقده في هذه الأيام كما في الليلة الظلماء يفتقد البدر، لكن موقف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والتي طالما اتهمها البعض بالانتهازية اليسارية تثبت كما أثبتت طيلة تجربة السلطة الوطنية وحتى الساعة بأنها عبّرت عن ضمير الثورة الفلسطينية فعلاً، لم تكن حالمة ولحقت بالضرورات والوقائع ولكنها لم تفرِّط في جوهر المسألة، أصابها ما أصاب كلِّ اليسار الفلسطيني من الظرف العام وعلى كل المستويات لكنها بقيت أمينة لتعبيرها الفعلي حتى الساعة ضميراً للثورة الفلسطينية مندوباً عن اليسار الذي ظلَّ يساراً واضحاً ومتصالحاً مع نفسه وجوهره.
الشهيد فتحي الشقاقي وحركة الجهاد الإسلامي كانت تعبيرا آخر عن الضمير وإن لم يقلها ياسر عرفات قبل أن يسمَّم ويقتل ويباع دمه برعاية ثوار(البزنس) فنحن نقولها اليوم ونقول أكثر من ذلك في هذا اليمين الفلسطيني الذي ظلَّ يميناً إسلامياً جهادياً حقيقياً لم نره انتهازياً ولو في واقعة واحدة حتى الساعة، لم ينقل بصره تجاه ما ستأتي به الريح الأمريكية وما استخدم ورقة ليستأثر بموضع أو مكانة، بل ظل َّ من العاملين بصمت وجلبة أقل وعينه على مصلحة مجموع هذا العمل الوطني أولاً وأخيراً.
مجرمو الوطن الذين ينفذون جرائمهم كلها تحت سمع هذا الوطن وبصره وفي مقدمتها الفساد السياسي والفساد الأمني والفساد الأخلاقي والفساد الوطني هم حفّارو قبور التجربة الفلسطينية برمتها و تركهم يفعلون ذلك جريمة تساوي أضعاف جريمتهم.
(البزنس) الذي تقبل به السلطة الوطنية ويقبل به رئيسها على هذا النحو الوارد في مجموع الملفات التي انتخب رئيس السلطة على أساس محاربته هو (بزنس) أسود وهو عار وشنار، الأقلام والمواقع والصحف والكتب التي تطبّل له وتغني أو تحاول التضليل من حوله ،هي أقلام ساقطة خانت شرف الكلمة وأمانتها ولا تستحق أكثر من وصفها بدود الحالة التي أنتجتها.
السلطة الوطنية الفلسطينية تجربة مؤلمة بكل ما تحمله الكلمة من معنى في فراغ الكأس الذي ننظر إليه وتحتاج لوقفة حقيقية من الشعب أولا ومن الفصائل ثانيا وقبل ذلك من مفكري وضمائر هذا الشعب، أما النصف الملآن فيقول إذا لم تلحقوا بي سأذهب عمولات(بزنس) ثورية أو غنائم لظلال التخريب وأولاد الجريمة.
منظمة التحرير الفلسطينية هي آخر الجسم الطافي من السفينة الغارقة لا محالة، إن أعيدت إلى السطح بنظافة شعارها (من أين لكَ هذا؟) و(الرجل المناسب في المكان المناسب) و(الوطن للوطن أولاً وآخراً) حملت شعبها بلطافة إلى ميناء النهار الأول الحقيقي وإلا فلينظر كلٌ موقعه من جريمة غرقها وليختر بين صفة ثوار (البزنس) أوصفة انتهازيي المراحل.