الحروب نوعان: نظامية وقيامية. الحرب النظاميـة صراعٌ بين دولتين أو أكثر، تحكمها قوانين وقواعد وأعراف تتمشى عليها جيوش محاربة، وتنتهي باستسلام الأضعف للأقوى، وتترتب عليها معاهدات ومواثيق تنظم العلاقات، وتحدد الموجبات، وتضع القيود، وترسم الحدود. مثال ذلك الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية، وكلاهما وقع في القرن العشرين. الحرب القيامية حرب كارثية حاسمة ذات أبعاد رؤيوية ومفاعيل مستقبلية، تعصف بدول وشعوب، وتقلب مفاهيم تاريخية وحقائق جغرافية، وترسم مصائر جديـد . إنها حرب إعصارية بعنفها وهمجيتها ، تفتكُ بالإنسان، وتهدّم العمران وتضج بدينونة غامضة. مثال ذلك حرب أميركا على اليابان خلال الحرب العالمية الثانية. بدأت حربا نظامية، ثم حوّلتها أميركا حرباً قيامية بقصفها مدينتي هيروشيما ونجازاكي اليابانيتين بقنابل ذرية.
الحروب الدينية، قديمًا وحديًا، هي حروب قيامية. مثال ذلك حروب الفرنجة على العرب والمسلمين المعروفة باسم الحروب الصليبية. كانت حروبا ذات صبغة دينية أو تتستر بالدين لتخفي مطامع ومصالح دنيوية. كذلك حرب اليهود الصهاينة لاغتصاب فلسطين العام 1948، تدثّرت باليهودية لتخفي مصالح ومطامع استعمارية، أوروبية ثم أميركية.
هجمات 11 ايلول / سبتمبر كانت حرباً قيامية انطوت على كارثة إنسانية وتسببت بانعطافة سياسية وإستراتيجية مصيرية ، وأفرزت حربا أميركية استباقية على أفغانستان ثم على العراق، تحوّلت بدورها حربا قيامية ذات أبعاد رؤيوية، وهي مرشحة لقلب مفاهيم تاريخية وحقائق جغرافية ، وإعادة هيكلة ثقافية، ورسم مصائر جديدة.
المقاومة الجهادية في صورتها العراقية والفلسطينية هي حرب قيامية تنطوي أحياناً على عنف أعمى يطاول الإنسان والعمران ، وتنذر – بإمتداداتها الإقليمية – بقلب مفاهيم تاريخية وحقائق جغرافية وبرسم مصائر جديدة .
الحرب على الإرهاب الأميركية في مواجهة الحرب الجهادية الإسلامية ، تنطوي على خطر الإنتقال بالمنطقة من وضع التجزئة إلى وضع التفتت ، مع كل ما يرافق هذه العملية الإعصارية من تشريد سكان ، وإقتلاع مجتمعات ، وإحلال أقوام محل أقوام ، وتدمير موارد ، وتبديد ثروات .
الصراعُ المحموم بين أميركا وإيران قد يتطور إلى حرب قيامية تفتك بالبشر وتهدم الحجر وتبيد الشجر. ذلك أن أميركا قد توعز إلى إسرائيل بإستعمال أسلحة تدمير شامل لتخريب المنشآت النووية الإيرانية ، وللقضاء على وثبة إيران الصناعية والتكنولوجية .
إيران الإسلامية تتحسب للضربة الأميركية – الصهيونية الإستباقية فتراها تهدد بـردٍ قــاسٍ شامــل لا يقتصر على أهداف عسكرية أميركية في حوض الخليج العربي - الفارسي بل يطول ايضا اهدافاً صهيونية في فلسطين المحتلة ، وقد يطاول الدول الإسلامية المنتجة للنفط في المنطقة ، متدرجا في عنفه من إغلاق مضيق هرمز لتعطيل نقل النفط بحراً إلى تدمير المنشآت النفطية ذاتها إذا ما لمست إيران تواطؤا بين حكومات الدول المنتجة والولايات المتحدة شبيها بذلك الذي حدث عشية الحرب علـى العراق العام 2003 الذي كانت طهران طرفا فيه ، بصورة غير مباشرة ، نتيجة قصور في الرؤية الإستراتيجية.
قد يردع التهديد الإيراني بتدمير صناعة النفط ، إنتاجاً ونقلا ، في حوض الخليج الولايات المتحدة عن تدمير المنشآت النووية الإيرانية. لكن ، هل تراه يردع منظمات العنف الأعمى ذات الأصول الإسلامية عن القيام بالمهمة نفسها ؟
من مفارقات " الحرب على الإرهاب " بعد أحداث 9/11 انها لبّت حاجة إستراتيجية لدى منظمات الإسلام الراديكالي لإستدراج الولايات المتحدة إلى " نقل الحرب إلى ارض العدو". واذْ فعلت اميركا ذلك تماما بإحتلالها العراق ، أفسحت في المجال للمنظمات الإسلامية الجهادية بمقاتلتها على أرضها العربية والإسلامية وفي بيئتها الشعبية حيث شروط التعبئة والتدريب والحشد والإمداد اللوجستي والمناورة والفعل العسكري أيسر واضمن أليس ضرب منشآت النفط هو ما تفعله المقاومة العراقية بدأب ملحوظ ؟ ألم تكن المنشآت النفطية على الساحل الشرقي للسعودية هدفاً للمجموعة الأصولية التي أعلنت حكومة الرياض مؤخرا تصفيتها في الدمام ؟
لماذا يحرق الإسلاميون الجهاديون آبار النفط وأنابيب نقله ؟
يتضح من أدبياتهم ، على قلّتها ، ان النفط ليس وقودا فحسب بل هو أيضا عائدات بأرقام فلكية بحرقه يصيبون طريدتين برمية واحدة : يمنعون الوقودَ عن أميركا وحليفاتها ، والمالَ عن الفئات الحاكمة في الدول المنتجة . ذلك ان التطور الأبرز في موقف الإسلاميين الراديكاليين من الدول الإسلامية المنتجة للنفط هو إنتقالهم ، بعد إحتلال العراق ، إلى معاداتها ومقاومتها بالعنف كونها ، في تصنيفهم الصارم لسلوكياتها ، حليفة للعدو الأميركي الذي يقاومونه سياسيا وميدانيا.
هكذا يتبدّى المشهد الحياتي والسياسي في المنطقة على درجة عالية من التعقيد والمأساوية : أميركا تسحق الشعوب ، لا سيما في افغانستان والعراق ( وتهدد سوريا بالعقوبة نفسها ) وإسرائيل تسحق الشعب الفلسطيني وتهدد الشعب الإيراني من جهة ، ومن جهة أخرى المنظماتُ الإسلامية الجهادية تضرب حيث تطول ذراعها منشآت النفط في العراق وتحاول إستهداف مثيلاتها في السعودية وغيرها.
أكثر من ذلك : إذْ تتعاظم عائدات النفط ودخول الدول المنتجة ، وتتزايد بموازاتها حاجة الولايات المتحـدة إلى اجتذاب الرساميل إلى مصارفها وأسواقها المالية ، لا سيما بعد كارثة إعصار كاترينا ، فقد أضحت للحرب على الإرهاب وظيفة اضافية في أجندتها. إنها تعميم " الفوضى البناءة " على بلدان المنطقة على نحوٍ يولّد خوفا شديدا لدى حكومات الدول المنتجة للنفط وأصحاب الرساميل من الإستثمار فيها. ذلك يؤدي بدوره إلى إمتصاص أسواق الولايات المتحدة ومرافقها ومشروعاتها ، في الدرجة الأولى ، فائض عائدات النفط التي تعاظمت بعد صعود أسعاره مؤخرا.
حتى لو إفترضنا أن الولايات المتحدة لا ترغب في تعميم " الفوضى البناءة " على بلدان المنطقة ، فإن استمرار سياسة الحرب على الإرهاب بوتيرتها المتصاعدة ، وازدياد الضغوط الأميركية على كلٍ من سوريا وإيران ، وإمكانية اندلاع الانتفاضة الثالثة في الضفة الغربية رداً على متابعة ارييل شارون وحكومته سياسة الإستيطان... ذلـك كله كفيل بتحقيق النتيجة ذاتها وهي نفور أصحاب الرساميل ، حكوماتٍ ورجال أعمال ، عن التوظيف المالي والإستثمار في مناطق التوتر والإضطراب .