المواجهات العسكرية الدامية التي تشهدها هذه الايام مدينتا تلعفر والقائم تتخذ بعدًا سياسيًا آخر يتجاوز حقيقة الأهداف المعلنة عادة في مثل هذه الحملات وهي تخليص المدن العراقية من «الارهابيين والمقاتلين» الأجانب وبسط الأمن والهدوء في ربوعها، فقبيل انطلاق الحملة الأخيرة على مدينة تلعفر المسماة (إعادة الحقوق) كانت القوات الاميركية قد أعلنت قبل ذلك بثلاثة ايام انها تمكنت من قتل واعتقال مئات المسلحين في تلك المدينة خلال الاسبوع المنصرم، وقد تفسر إعادة الكرة مرة ثانية بأنها نوع من المناورة العسكرية الهادفة الى استدراج المسلحين مرة اخرى للمدينة عبر الاعلان الرسمي عن اختتام العمليات هناك، غير ان قصر المدة الزمنية بين الحملتين يبعد واقعية مثل هذا الاحتمال، وربما جاء ذلك التصريح الاستباقي المتعجل للتخفيف من الضغوط الكبيرة التي تلقي بثقلها على الادارة العسكرية الاميركية في العراق، واستدراكا لهذا التخبط الاداري انطلقت حملة (اعادة الحقوق) الثانية لاكمال عمل يبدو انه لن يكتمل!
وقد بات واضحا ان المحافظات السنية ستشهد مواجهات دامية من هذا القبيل خلال هذا الشهر الذي يسبق موعد الاستفتاء (15/10) كما جاء في تصريح وزير الدفاع سعدون الدليمي الذي ألمح الى امتداد الحملات الى مناطق سامراء والرمادي وراوة ذات الغالبية السنية وبلا ريب فإن العمليات العسكرية ستحول بين القوى السياسية السنية المعارضة للدستور وقدرتها على تحريك الشارع للمشاركة في رفضه، اذ كيف يتم استيفاء كشوف الناخبين وتنظيم اللجان وممارسة الفعاليات التوعوية اللازمة في مدن شرد اهلوها من ديارهم؟! ومما يزيد الامر حدة وحرجا تركز القصف الاميركي على المناطق ذات الغالبية السنية في مدينة تلعفر، وهو ما حمل هيئة علماء المسلمين على وصف العملية بأنها تنفيس عن حقد طائفي دفين! ان استمرار سيناريو الاحداث وفق هذا الاساس يهدف الى تمرير مشروع الدستور في حال تم الاستفتاء في هذه الظروف، وهي ظروف تم فيها حجب الصوت المعارض الذي يتركز في معظمة في تلك المناطق التي تعصف بها حملات القوات الاميركية العراقية المشتركة، اذ راهنت القوى المعارضة للدستور على قدرتها في اقناع ثلثي ناخبي ثلاث محافظات عراقية على الاقل للتصويت ضده في الاستفتاء المقبل وهو امر محتمل الوقوع في حال توافر اجواء سلمية هادئة وفرص منافسة متكافئة.
مصالح الادارة الاميركية التقت مع مصالح فئات طائفية وعرقية من الشعب العراقي عند نقطة تمرير الدستور بما يحقق لذلك الفريق مصالحه الفئوية الضيقة ولو على حساب الغير، ويمنح الادارة الاميركية نصرا ينتشلها من مسلسل الاخفاق المتعاظم الذي زادت وطأته ثقلا واحراجا عقب كارثة اعصار كاترينا المدمر، وفي حال تم تحقيق ذلك فإن الجماعات المسلحة ستكتسب مزيدا من الدعم والتأييد وستعوض خسائرها البشرية بأعداد جديدة من المتطوعين المحبطين من العملية السياسية المصادرة من الغير، وبعد ان بات واضحا ان اللعبة التي تتم في العراق لا صلة لها البتة بالممارسة الديموقراطية النزيهة والمنافسة ذات الفرص المتكافئة وانما تحكمها معادلات المصالح السياسية قصيرة المدى لا تنجح في تجاوز مشكلة إلا بعد ان تؤسس لأخرى أسوأ منها!