ميّ شدياق إعلامية لبنانية بارزة. مكّنت فضائية المؤسسة اللبنانية للإرسـال "أل بي سي" صوتها العذب من الانتشار في عالم المغتربين المترامي الأطراف. لعل لها حصة وازنة أيضـا لدى الجمهور العربي المعجب بوجهها الصبوح وابتسامتها المشرقة. غير أن ميزتها النادرة تبقى جرأتها اللافتة. إنها أجرأ امرأة لبنانية ناطقة باسم الحرية. لها، بطبيعة الحال، خصوم كثيرون لاعتبارات سياسية. لكن آراءها السياسية لم تؤدِ طيلة مدة كفاحها التلفزيوني المديد – نحو 20 عاما – إلى عداوة. كان سحرها يبدد دائما أية عداوة محتملة، او هكذا كنا نظنّ.
يوم الأحد الماضي امتدت يد آثمة لتدسّ عبوة ناسفة تحت مقعد السائق في سيارتها لتنفجر فور أن همّت بتشغيل المحرك.
نجت ميّ بإعجوبة، لكنها تضررت كثيرًا. حيث فقدت يدها اليسرى وساقها اليسرى وما زالت تعاني حروقاً في شتى أنحاء جسدها. أصبحت ميّ شهيدة حية.
طريقة التفجير أضحت تقليدية وخاصة باغتيال قادة الرأي والإعلاميين: عبوة ناسفة تلصق بأسفل السيارة تحت المقعد الذي يجلس عليه "المرشح" للاغتيال، سواء كان هو من يسوق السيارة أو يجلس إلى جانب السائق. هكذا تمّ اغتيال سمير قصير وجورج حاوي وأخيرا مي شدياق. من تراه يكون المرشح المقبل؟
السؤال ليس نظريا. من استمع إلى وزير الداخلية العميد حسن السبع بعد انتهاء اجتماع رئيس الحكومة فؤاد السنيورة إليه والى وزير الدفاع بالوكالة وقادة الأجهزة الأمنية، غداة الحدث الجلل، تأكّد أن مسلسل الاغتيالات ما زال مستمرا. فقد أقرّ السبع بشجاعةِ ملك الغاب بـِ " أننا نواجه شبحا ولا نلمس دليلا، والنظام الأمني شبكة وليس الضباط الأربعة (الموقوفين) فقط، والمخطط الإرهابي ما زال ساري المفعول " !
كان عجز حكومة السنيورة يتحدث بطلاقة غير مسبوقة.
من حاول، اذاً، اغتيال مي شدياق ؟
الظنون والتخمينات كثيرة، لكن أكثرها أشار إلى الاستخبارات السورية. كان يمكن الظن بغيرها، هذه المرة، لولا أن وزير الدفاع الأصيل، وزير الداخلية السابق، إلياس المرّ صبّ زيت الاتهام غير المباشر على نار الشك المزمن بها. فقد كشف بصراحة أن رئيس جهاز الأمن والاستطلاع في القوات السورية التي كانت متواجدة في لبنان العميد رستم غزالة هدده أواخر شهر أيلول 2004 على خلفية توقيف أفراد شبكة مجدل عنجر التي قيل أنها كانت تخطط لتفجير السفارة الإيطالية الأمر الذي دفعه إلى التغيّب عن البلاد فتـراتٍ طويلة.
المرّ الابن أحرج المرّ الأب. بل أحرج أيضا عمه (والد زوجته) رئيس الجمهورية العماد إميل لحود. لكن الناس لن تتوقف كثيرا أمام هذا البوح المتأخر كون أفراد الطبقة السياسية في عهد ما بعد الحرب الأهلية كانوا دائما، في معظمهم، متعـاونين مع الاستخبارات السورية ومطيعين لها بامتياز.
يبقى السؤال الأساس مقذوفا في وجه الجميع: من تراه حاول قتل ميّ شدياق؟
الفاعل المباشر لم يترك آثارا تدل عليه. خلّف فقط طريقة في الاغتيال ربما يتمكن المحققون اللبنانيون يوما – وقد انضم إليهم فريق من مكتب التحقيق الفدرالي الأميركي بطلب من السنيورة شخصياً ! – من اكتشاف دليل أو قرينة تشير إلى المخطِط أو إلى الفاعل أو إلى كليهما.
في غياب الأدلة والقرائن تكثر التكهنات والتحليلات. بعضها يستند إلى معلومات عامة مجهولة المصدر، وبعضها الآخر يستند إلى مقارنات لافتة مع ظواهر مماثلة. في هذا الإطار، لا يستبعد مقربون من النائب العماد ميشال عون، زعيم "التيار الوطني الحر" وكتلته النيابية، أن يكون الغرض المرتجى من الاغتيالات والتفجيرات المتواصلة دفْع المسيحيين إلى الشك بقدرة الدولة على فرض الأمن في مناطقهم وتوفير السلامة العامة الأمر الذي يتيح لبعض التنظيمــات المسيحية تفعيل المطالبة بإقامة أمن ذاتي. ألم يحدث ذلك في بداية الحرب الأهلية قبل 30 عاما؟
رئيس الوزراء السابق وزعيم منبر الوحدة الوطنية " القوة الثالثة " الدكتور سليم الحص اشتكى من غياب الحكومة والأجهزة الأمنية وعجزها المطبق. لكن مقربين منه أكدّوا انه يشاطر العماد عون تخوفه من احتمال تزايد المطالبة بإقامة أمن ذاتي لدى المسيحيين وغيرهم أيضا، واعتبروا ذلك مقدمة لطرح الفدرالية شعارا ومن ثم مطلبا. لا سمح الله أن تصبح مي شدياق، الشهيدة الحية، شاهدة على عودة الأمن الذاتي.
في هذه الأثناء تشير معلومات متواترة لدى بعض القياديين اللبنانيين إلى وجود حركة انتقال أشخاص ونقل أسلحة في منطقة الحدود الشمالية الشرقية مع سوريا. تردد أن الأشخاص عابري الحدود فئتان: فلسطينيون مؤيدون لسوريا، وسلفيون مؤيدون للمقاومة العراقية ضد الاحتلال. وثمة معلومات متواترة أيضا عن أن فئات متعددة الهوية داخل معظم الطوائف تتسلح وتتمون.
رافق كشف هذه المعلومات المتواترة حدثان: الأول تعليق رئيس "اللقاء الديمقراطي" النائب وليد جنبلاط على محاولة اغتيال ميّ شدياق إذ رفض توجيه الاتهام إلى سوريا أو إلى أية جهة أخرى، قائلا انه لا يملك معطيات محددة هذه المرة. غير أن عضو كتلته وزير الاتصالات مروان حماده جزم في حديث تلفزيوني بأن الفاعلين يعرفهم الجميع: " قلت من اليوم الأول انظروا إلى محور دمشق – بعبدا- أقبية المخابرات، ولا أتراجع عن ذلك ". وكان جنبلاط نفسه توقع زلزالاً كبيراً في المنطقة بعد إعلان نتائج التحقيق في اغتيال الرئيس الحريري.
الحدث الثاني كان المحادثات التي أجراها في باريس النائب سعد الدين الحريري، زعيم " تيار المستقبل"، مع قائد "حزب القوات اللبنانية" سمير جعجع وزوجته النائب ستريدا جعجع. المجتمعون أشاروا، في البيان الذي صدر عنهم لاحقا، إلى "الأضواء التي سيلقيها تقرير لجنة التحقيق الدولية على حقيقة النظام الذي حكم لبنان على مدى الخمس عشرة سنة الماضية وعلى كل الممارسات التي وقعت في ظله".
تصريحات جنبلاط وحماده والحريري وجعجع عززت الانطباع السائد في بيروت بأن نتائج التحقيق في اغتيال الحريري قد تمس دمشق. وقد فُسرت زيارة الرئيس بشار الأسد المفاجئة للقاهرة وتصريحات الناطق باسم الرئيس حسني مبارك بأنها هدفت إلى احتواء أية مضاعفات داخلية وإقليمية في حال انتهى تقرير لجنة التحقيق الدولية إلى تحميل سوريا، كلياً أو جزئيا، المسؤولية عن اغتيال الحريري.
غير أن فريقا من المراقبين يعتقد بأن ما من شيء يدعو دمشق إلى القلق من احتمال إدانتها. بالعكس، يشير هؤلاء إلى "ما سمعه وزير العدل شارل رزق من رئيس لجنة التحقيق الدولية ديتليف ميليس في اجتماع طويل عقداه مساء الثلاثاء الماضي، حينما لمّح القاضي الألماني إلى أن اللجنة الدولية لم تتوصل إلى "نتائج نهائية" في تحقيقاتها، مما يرجح ألاّ يوجه التقرير النهائي اتهاماً مباشراً إلى سوري ، وقد لا يُشتبه فيها بالضرورة " ( جريدة " النهار" بتاريخ 2005/9/29 صفحة 2 ). كما يفسر هؤلاء تحركات الفلسطينيين الموالين لسوريا والسلفيين الموالين للعراق على الحدود اللبنانية – السورية بأنها تدبير احتياطي من قبل سوريا لمنع خصومها في لبنان من تحويله منصةً للهجوم عليها. بل إن بعضا من هؤلاء المراقبين يعتقد بأن سوريا قادرة عبر أنصارها على قلب الطاولة على خصومها في لبنان وبالتالي إحباط أية محاولة أميركية ترمي إلى تجريد حزب الله من السلاح أو إلى إحكام قبضة خصومه على مفاصل السلطة.
إن المعلومات المتواترة والتصريحات المتناقضة للمسؤولين والسياسيين في لبنان لا تسمح للمراقب الحصيف بأن يرسم وجهة محددة لمسار الحوادث والأحداث في بلاد الأرز المضطربة. كل ما يمكن قوله في الوقت الحاضر أن حرب أميركا على الإرهاب يواجهها أعداؤها الأصوليون بتوسيع دائرة الاشتباك ضدها وضد حلفائها في المنطقة، وأن هذه المواجهة التي تلّف الـعراق وفلسطين وتتجه، على ما يبدو، إلى سوريا، لن يكون لبنان بمأمن من مضاعفاتها على جميع المستويات.