لا يجوز أن تنجح المقاومة في الحرب وترسب في السياسة. في هذه الحال، سيكون حكم التاريخ عليها قاسيا. هي كادت أن ترسب في امتحان التاريخ لولا أنها غلّبت، في لحظة مباركة، عقل الثورة الإستراتيجي على قلبها العاطفي المترع بالحماسة. الرأي ، دائمًا، قبل شجاعة الشجعان. ثمة حقائق يقتضي استذكارها مجدداً بعد اندحار اسرائيل من قطاع غزة، ذلك أن نسيانها يربك المقاومة، كما السلطة الوطنية، ويشيع اليأس في صفوف الشعب الفلسطيني.
أولى الحقائق أن إسرائيل انسحبت من قطاع غزة ليس بسبب ضربات المقاومة وحدها بل لأسباب أخرى أيضا أبرزها تفادي غرق شعبها في المحيط الديموغرافي الفلسطيني. لا شك في أن كفاح المقاومة المرير عجّل في انسحاب إسرائيل، لكن الدافع السياسي الإستراتيجي المار ذكره كان له دوره أيضاً في تقرير الانسحاب.
ثانية الحقائق أن ثمة حدوداً لدور المقاومة المسلحة في تحرير فلسطين من الاحتلال الصهيوني، إذ ليس من تكافؤ على الصعيد العسكري والتكنولوجي بين الطرفين المتصارعين. من هنا ينبع مبدأ إستراتيجي بالغ الأهمية هو ضرورة وجود إستراتيجية متكاملة لدى الثورة الفلسطينية، متعددة الجوانب، متعددة المراحل، ينتظمها جميعا عقل سياسي مبدئي وعملي في آن. أليس هذا هو الدرس المستخلص من تمحيص تواريخ الثورات المعاصرة؟
ثالثة الحقائق أن المهمة الأساس للثورة الفلسطينية، مقاومةً وسلطة وشعبا، بعد انسحاب إسرائيل من قطاع غزة هي أن يبرهن الفلسطينيون للعالم، ولا سيما لإطراف الهيئة الرباعية الدولية، قدرتهم على أن يحكموا نفسهم بنفسهم. هذه المهمة الأساس لم يدركها الأطراف الفلسطينيون المتصارعون أو أنهم أخفقوا في تحقيقها. لماذا؟ لأن بعضهم قدّم مصلحته في السيطرة الذاتية على المصلحة الوطنية العليا، وبعضهم الآخـر أراد حرق المراحل بمواصلة القتال من القطاع والضفة في الوقت نفسه، غافلا أو متغافلا عن الظروف الموضوعية المعوّقة.
رابعة الحقائق أن النهج الأكثر فعالية لتقويض سياسة أرييل شارون المعادية لقيام دولة فلسطينية هو ذلك الذي يبقي العملية السياسية حيّة ومتحركة. ولعل السبيل إلى ذلك هو الانطلاق من تثبيت حقيقة قدرة الفلسطينيين على حكم نفسهم بنفسهم في قطاع غزة إلى مطالبة المجتمع الدولي، لا سيما أعضاء الهيئة الرباعية ، بالانتقال السريع والجاد إلى تنفيذ سائر بنود خريطة الطريق وأبرزها وقف الاستيطان كليا، ووقف بناء جدار الفصل، وتبني فتوى محكمة العدل الدولية باعتبار الجدار المذكور منافيا لأحكام القانون الدولي وسائر المواثيق والقرارات الدولية ومستوجبا، بالتالي، الهدم في نهاية المطاف، والإلحاح في دعوة أعضاء الهيئة الرباعية إلى التبكير في تنظيم مفاوضات الوضع النهائي.
خامسة الحقائق أن الانتقال المتدرج من المقاومة إلى التهدئة إلى المفاوضة ليست مسارا لا نهاية له، كما انه ليس نهجا وخيارا وحيداً للمقاومة والسلطة مجتمعتين في صراعهما الجدلي مع العدو. من هنا تنبع أهمية استثمار فترة التهدئة والمفاوضة لالتقاط الأنفاس، وإعادة تنظيم الصفوف والمؤسسات، وتنسيق السياسات ومناهج المواجهة، والإعداد القتالي، والتذخير اللوجستي، والاستعداد المنهجي للعودة إلى المقاومة المسلحة في المناطق والميادين المناسبة إذا ما أخفقت المفاوضات أو وصلت إلى طريق مسدود.
سادسة الحقائق أن مرحلة التهدئة قد تتداخل مع مرحلة المقاومة، كما أن هذه الأخيرة قد تتداخل مع مرحلة المفاوضة، ذلك أن الصراع متعدد الأطراف والجوانب، وتتخلله حوادث وأحداث طارئة تفرض نفسها على المسار السياسي أو على المسار القتالي. ذلك كله يستوجب تحلّي قيادة الثورة الفلسطينية بالمرونة الكافية لمواجهة الاحتمالات المشار إليها آنفا.
سابعة الحقائق أن طبيعة الصراع مع العدو الصهيوني وتداخل مراحل المقاومة والتهدئة والمفاوضة على النحو المبيّن آنفا يستوجبان، بالإضافة إلى موجبات أخرى سياسية وكفاحية ، وجود قيادة موحدة للثورة الفلسطينية. هذه القيادة ما زالت غائبة. وهي، على كل حال، ليست قيادة منظمة التحرير ولا قيادة السلطة الوطنية في وضعيهما الراهن. لعل حلّ هذه المعضلة يكون بإجراء انتخابات نيابية في القطاع والضفة تنبثق منها سلطة تمثيلية وتشريعية شرعية، وتكون تاليا أساسا لتمثيل الشعب الفلسطيني في الداخل لدى المجلس الوطني الفلسطيني الذي يمثل الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج معا. من الطبيعي أن يصار أيضا إلى التوافق على صيغة ديمقراطية لتمثيل سائر قطاعات الشعب الفلسطيني في الخارج لدى المجلس الوطني. وبعد اكتمال تأليف المجلس الوطني تجري انتخابات ديمقراطية لانتخاب اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير التي تصبح، بحق وحقيق، القيادة الوطنية العليا الموحدة للشعب الفلسطيني بكل فئاته وتنظيماته وشرائحه وأجياله.
ثامنة الحقائق أن اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، بما هي القيادة العليا للشعب الفلسطيني سلطةً ومقاومة ومجتمعا مدنيا ورأيا عاما، هي الجهة السياسية الشرعية المنوط بها وضع إستراتيجية المقاومة بجانبيها الميداني والمدني، وسياسة المفاوضة بمناهجها وأساليبها ومواقيتها، وسلطة الرقابة العليا على أنشطة السلطة والمقاومة، والمرجع الصالح لمباشرة مهمات النقد والتصحيح والتصويب والتطوير .
تاسعة الحقائق أن الثورة الفلسطينية هي جزء لا يتجزأ من ثورة الشعب العربي في كل أقطاره وأمصاره من اجل التحرر والتحرير، والتضامن والتوحيد، والحرية والديمقراطية، والعدالة والمساواة، والنهوض والتنمية، والتقدم والإبداع الحضاري. لذا ضرورة مشاركة منظمة التحرير في كل النضالات والأنشطة والهيئات والمؤسسات العاملة من اجل تحقيق الأهداف العليا آنفة الذكر.
عاشرة الحقائق أن الثورة الفلسطينية هي جزء لا يتجزأ من القطب العالمي البازع، عنيت به الرأي العام العالمي الذي هو مرآة نضالات الشعوب من أجل الحرية والديمقراطية والعدالة والتنمية والتقدم. لذا ضرورة مشاركة منظمة التحرير في كل النضالات والأنشطـة والهيئات والمؤسسات العاملة من اجل عالم يسوده السلام، والعدالة، وحكم القانون، وصون الصحة العامة، وحماية البيئة، والتعاون الأممي في جميع مجالات الحياة.
هل من حقائق أخرى تستوجب الذكر والسطوع؟