بين الفينة والأخرى تنطلق دعوات (محاربة الفساد) من مختلف طبقات الهرم السلطوي وأطياف النسيج السياسي في البلاد، وربما تبع تلك الدعوات تشكيل لجان خاصة وفرق عمل هدفها تحويل تلك الدعوة الى حرب حقيقية تطهر بها البلاد والعباد من رجس ذلك الشبح الكريه، غير أن تلك الحرب لا تشذ عن قاعدة الحروب العربية المعهودة، فما ثم إلا بيانات وتصريحات تمتاز بعنف لهجتها وصرامة نبرتها تهدد وتتوعد وتزبد وترعد ثم,,, يدركها الوسن والنعاس فتنطفئ جذوتها ويخمد جمرها، وإذا بك ترى الفساد يتمدد طولا وعرضا ويقتحم في كل يوم قلاعًا جديدة كانت ممتنعة عليه إلى حين.

سئم عامة الناس وهم المكتوون بنار الفساد وشواظه، تلك الدعوات المتكررة، وأصيبوا بتخمة التصريحات والخطب التي لا تترك لها أثرًا على ارض الواقع، إنهم يريدون إنجازات فعلية تغرس في نفوسهم الأمل بان الفساد لم يعد كأسطورة الجيش الذي لا يقهر، وهم مع ذلك واقعيون جدا يتفهمون الأمور بروية وأناة، ويدركون أن القضاء على الفساد لن يتم بين عشية وضحاها، فان للفساد من يحميه ويذود عنه أيضا، وكل ما يتمنوه فعلا أن يروا من تلك الدعوات الصوتية شيئا من الجدية والصدقية، إن أولى خطوات إعلان الحرب على الفساد تتمثل في تعريف الفساد وبيان مدلوله من باب (اعرف عدوك)، والأمر لا يحتاج إلى بحث مطول في دنيا الحدود والتعاريف وتنقيب في بطون المعاجم والموسوعات، فالفساد هو المعادل الموضوعي للظلم، فالظلم وضع الشيء في غير موضعه، وصرف الحق لمن لا يستحق ومنعه من مستحقه، ومع استشراء الفساد ومرور السنوات عليه اكتسب كثيرا من مظاهر اللباس الشرعية لاعتياد الناس عليها، فالعادة محكمة كما يقول الأ صوليون، ولها من السلطان على النفوس والتأثير على الطباع ما يقلب الحق باطلا والباطل حقا.

وأما الخطوة الثانية فتتمثل في القدوة التي ينبغي أن تتوافر في من يتصدون للحرب على الفساد، فعليهم أولا أن يطهروا أعمالهم وممارساتهم من أي شبهة فساد، وهو ما قد يستلزم الابتعاد عن كثير من المباحات درءا للشبهة وحسما لتمويهات المشككين، وحينها يكون لتلك الدعوات قيمة وفاعلية، فمتى رأى المرؤوس رئيسه يجتهد في إقامة العدل والالتزام بقوانين عمله من دون محاباة أو تهاون كان ذلك حافزا له للاقتداء به والائتساء بنهجه، وإن وجده خلاف ذلك كان سلوكه المعوج أعظم ذريعة للمرؤوس ليمارس الفساد كما يحلو له:

إذا كان رب البيت بالدف ضاربا
فشيمة أهل البيت كلهم الرقص!

وليس سرا أن في المؤسسات السياسية المختلفة من يفيد من وجود الفساد، ويرى أن في القضاء عليه ما يهدد مصالحه ويفقده الكثير من قدراته وامتيازاته، فنواب الخدمات - كما اصطلح على تسميتهم- ما كان ينبغي أن يكون لهم وجود لولا الفساد الحكومي الذي يحول بين المواطنين والحصول على حقوقهم التي تعرقلها البيروقراطية والمزاجية والمحسوبية، وبفضل ذلك ترتفع أسهم النائب الخدماتي، لأنه بمهاراته التي حباه الله بها يستطيع تجاوز تلك العقبات والعوائق، وإذا نجحت حملة القضاء على الفساد في إزاحة تلك العقبات ليصل المواطنون إلى حقوقهم من دون واسطة، فان ذلك النائب لن يجد من يصوت له مستقبلا، فكيف يجتهد في محاربة الفساد بعد ذلك ويعمد إلى قطع رزقه بيده؟! وعلى مثله فقس!

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية