لم تشكل النتائج التي توصل إليها رئيس لجنة التحقيق الدولية في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري صدمة مفاجئة للمتابعين والمراقبين، فالقاضي الألماني ديتليف ميليس المتخصص في متابعة القضايا الأمنية الدولية الشائكة لم ينجح في تقديم تصور مقنع مؤيد بالحجج والأدلة لإثبات صحة دعواه فما نشر من نصوص التقرير لا يعدو دائرة الظنون القديمة التي سارت وراجت منذ اللحظة الأولى لجريمة الاغتيال القذرة في الرابع عشر من فبراير الماضي، فقد وجهت أصابع الاتهام الى سورية على خلفية العلاقة المتأزمة وقتها بين الفقيد والنظام السوري، وهو ما يمثل «الدافع» الذي يحرص المحققون في جرائم القتل العادية على تحديده باعتباره عاملا مساعدا في الكشف عن هوية الجاني، وقيل وقتها ان سورية هي صاحبة النفوذ الأكبر في لبنان, وبالتالي، فإن عملية كبيرة ودقيقة لم يمكن لها ان تتم من دون علم الأجهزة الأمنية السورية، وهي حجة قد تبدو قوية في بادئ الأمر غير ان تعميمها بهذه السهولة دفع كثيرين الى القول تأسيسا على ذلك ان عملية ضخمة بحجم عملية تفجير برجي التجارة في الحادي عشر من سبتمبر لم يكن لها أن تتم في الدولة العظمى التي تفخر بأنها صاحبة أكبر جهاز أمني واستخباراتي على مستوى العالم من دون تواطؤ مفضوح من ذلك الجهاز!

إن الحقائق المنشورة في تقرير ميليس لا تعدو دائرة الظن والتخمين، اذ تمثل الفقرة التالية لب التقرير وعموده الفقري الذي ينتهض عليه، «تتصور اللجنة بشكل معقول أن قرار اغتيال الحريري لم يكن ممكنا اتخاذه من دون موافقة مسؤولين رفيعي المستوى في أجهزة الأمن السورية وما كان ممكنا تنظيمه من دون اشتراك نظرائهم في الأجهزة الأمنية اللبنانية»، وبهذا يمكننا القول أن التقرير انتهى الى نقطة البدء الأولى إذ الشكوك والهواجس، وإن كان أحدهم لا ينكر أن دقة الحدس وحسن التخمين يمثلان أبرز صفات المحقق الناجح غير ان التحقيق لا يكون تحقيقا ما لم ينجح في وضع النقاط على الحروف عبر دعم ذلك الحدس بوقائع وقرائن تتمكن من الارتقاء به من حيز الظنون المجردة الى درجة اليقين والرجحان.

سيمنح هذا التقرير الادارة الأميركية عكازة جديد تتكئ عليها في حملتها المتصاعدة ضد سورية، وبيقين فإن دم الحريري المغدور تحول الى قميص عثمان تتعلل به، ورفع الأمر الى مجلس الأمن قد يكون مقدمة لفرض عقوبات تزيد من سرعة رحى الضغوط التي تتعرض لها سورية، وهي ضغوط ينبغي ألا ينظر اليها في سياق العلاقة بين الضاغط والمضغوط وحسب، لكن عبر منظور المخطط الذي شرعت في تنفيذه ادارة بوش لاعادة ترتيب البيت الشرق الأوسطي من جديد عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر والتي كلفتها حربين مكلفتين، بالاضافة الى تمكنها من فرض رؤيتها على دول المنطقة كلها وفق قوانين مكافحة الإرهاب، ونظرا لعدم استقرار الأوضاع في العراق وأفغانستان فإن الادارة الأميركية لا تتعجل كثيرا في حسم الموضوع السوري ضمن المعادلة الكبرى، ولذا فإنها ستمعن في استغلال التقرير المذكور لطبخ أهدافها على نار هادئة في وقت يبدو فيه التدخل العسكري مستبعدا في المستقبل المنظور ريثما تتمكن من الخروج من المستنقعين العراقي والأفغاني بأقل الخسائر الممكنة، وليكن الله في عون سورية!

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية